البث المباشر

نظريتان لتفسير الانسان

الثلاثاء 20 نوفمبر 2018 - 14:14 بتوقيت طهران
نظريتان لتفسير الانسان

تفسير الحركة التكاملية للتاريخ ناتجتان عن نظريتين مختلفتين لتفسير الانسان وهويته الواقعية وملكاته الكامنة.

احدى النظريتين ترى الانسان موجودا مغلولا بمصالحه المادية ومصالحه الاقتصادية ومسيرا في اتجاه جبري يفرضه عليه تطور وسائل الانتاج. وكل ما ينطوي عليه الانسان من مشاعر ورغبات واحكام وافكار وقدره على الانتخاب انما هو انعكاس لظروف بيئته الطبيعية والاجتماعية. الانسان بموجب هذه النظرة مرآة لا تستطيع ان تعكس سوى ما يحيطها، وليس بمقدوره ان يقوم بادني حركة خلافا لما تسمح به ظروف البيئة الطبيعية والاجتماعية. والنظرة الاخرى ترى الانسان موجودا متمتعا بخصال الهية ومزودا بفطرة تدفعه لان يطلب الحق وينشده، وقادرا على التحكم بنفسه وعلى التحرر من جبر الطبيعة والبيئة والغرائز والمصير المحتوم. والقيم الانسانية بموجب هذه النظرة لها اصالتها في الانسان، اي ان ثمة نزعات قد اودعت في طبيعة الانسان، والموجود البشري بموجب طبيعته الانسانية ينشد القيم الانسانية السامية، وبعبارة اخرى ينشد الحق والحقيقة والعدالة ومكارم الاخلاق، ويستطيع بموجب قواه العقلية ان يخطط لبناء مجتمعه وان لا يستسلم استسلاما اعمى لظروف البيئة، وان ينفذ مشاريعه الفكرية انطلاقا من ارادته وقدرته على الانتخاب. دور الوحي هو الموجة والمساعد للانسان، وباعتبار ان الوحي هادي البشرية وحامي القيم الانسانية. الانسان يتاثر دون شك بظروف بيئته، لكن هذا التفاعل لا يسير باتجاه واحد بل ان الانسان يؤثر أيضا على بيئته. والمسألة الاساسية في هذا التفاعل هي ان تاثير الانسان على البيئة لا يظهر على شكل ردود فعل جبرية قهرية. فالانسان، باعتباره موجودا واعيا حرا مريدا قادرا على الانتخاب ومجهزا بخصائص فطرية سامية، يبدي احيانا ردود فعل تختلف عما يبديه حيوان مسير فاقد للوعي من ردود فعل. الخصلة الرئيسية التي تميز الانسان عن سائر الموجودات هي قوة سيطرة الانسان على نفسه والثورة على انحرافاته. وكل النقاط المضيئة في تاريخ البشرية نابعة من هذه الخصلة. وهذا الجانب المتسامي من الانسان منسي تماما في الاتجاه الالي لتفسير التاريخ.

التفسير القرآني 

التفسير القرآني للتاريخ ينطلق دون شك من النظرة الثانية. القرآن يسرد وقائع التاريخ البشري منذ بداية الخليقة على انها صراع مستمر بين قوى الحق وقوى الباطل، بين مجموعة من أمثال ابراهيم وموسى وعيسى ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - واتباعهم المؤمنين، ومجموعة اخرى من أمثال نمرود وفرعون وجبابرة اليهود وابي سفيان وامثالهم.
فلكل فرعون موسى…
وفي خضم هذا الصراع المستمر ينتصر الحق حينا والباطل حينا آخر.
وانتصار احد الفريقين وفشله يرتبط طبعا بمجموعة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية.
تأكيد القرآن على تاثير العوامل الاخلاقية في مسيرة التاريخ صير من التاريخ مصدر تعليم مثمر معطاء، ولو نظرنا الى التاريخ على انه مجموعة صدف واتفاقات ليس لها علة ولا موازين وضوابط، لتبدلت احداث التاريخ الي اساطير لا تصلح الا للتسلية والسمر وتربية الخيال، دون ان يكون فيها اي عطاء تعليمي. وآمنا بوجود قواعد وموازين للتاريخ دون ان يكون للانسان دور فيه، لاضحى العطاء التعليمي للتاريخ نظريا فقط لا عمليا.
وسوف نتعلم - في هذه الحالة - من التاريخ نظير ما نتعلمه من حركات الكواكب والمجرات.
وكما ان معلوماتنا عن الكواكب والنجوم لاتساعدنا في تغيير مسيرها، كذلك معلوماتنا عن التاريخ لا تمنحنا اي دور في تعيين مسير حركة التاريخ.
اما حينما نؤمن بضوابط التاريخ وموازينه وقواعده، وبدور ارادة الانسان في تعيين مسير حركة التاريخ وبالدور الاصيل والحاسم للقيم الاخلاقية والانسانية، يصبح التاريخ حينئذ ذا عطاء تعليمي مفيد، والقرآن ينظر الى التاريخ من هذه النافذة. القرآن" الكريم يتحدث مرارا عن الدور الرجعي الذي يلعبه "الملأ" و"المترفون" و"المستكبرون" على مسرح التاريخ، كما يتحدث عن دور "المستضعفين"…
ويؤكد القرآن في الوقت ذاته على أن الصراع المستمر بين الفريقين منذ فجر التاريخ ذو هوية معنوية انسانية لامادية طبقية.

المجتمع المثالي

مسألة نهضة "المهدي" - عليه السلام - قضية اجتماعية فلسفية كبرى. هذه المسألة لها اركانها وعناصرها المختلفة، بعض هذه الاركان والعناصر فلسفي عالمي يشكل جزءا من التصور الاسلامي، وبعضها ثقافي تربوي، وبعضها سياسي وبعضها اقتصادي، وبعضها اجتماعي وبعضها انساني وانساني - طبيعي. لا يسعنا هنا أن ندرس هذه المسألة على ضوء القرآن والسنة، كذلك نكتفي بذكر خلاصة لخصائص هذه البشرى الكبرى للكشف عن ماهية "الانتظار الكبير".
أ - التفاؤل بمستقبل البشريه: فحول مستقبل المسيرة البشرية اختلفت الآراء والنظرات. اعتقد بعض المفكرين ان الشر والفساد والتعاسة صفات لا تفارق الحية البشرية، وذهبوا الى ان الحياة لا قيمة لها الاطلاق، وافضل ما يستطيع ان يقوم به الانسان هو ان يضع نهاية لهذه الحياة. وبعض اخر ذهب الي ان الحياة البشرية بتراء، وقال: ان البشرية تحفر قبرها بيدها بفعل تطورها التكنولوجي وتقدمها في صنع وسائل التخريب والدمار، وهي على شفا السقوط والانهيار. يقول "رسل" في "الامال الجديدة":"… ثمة افراد - منهم أنشتاين - يزعمون انه من المحتمل جدا ان يكون الانسان قد طوى دورة حياته، وسيستطيع خلال السنوات القليلة القادمة ان يبيد نفسه بما يتمتع به من مهارة علمية فائقة". واستنادا الى هذه النظرية، تواجه البشرية الفناء الان وهي في ربيع عمرها، وعلي ابواب نضجها الثقافي. واذا اكتفينا بالشواهد الظاهرية، فاننا لا نستطيع طبعا ان ننفي هذا الاحتمال. 
اما النظرية الثالثة فترفض المقولتين السابقتين، فلا الشر والفساد والتعاسة صفات تلازم البشرية، ولا التطور المدني المادي بقادر على ابادة البشرية، بل ان البشرية تتجه نحو مستقبل مشرق سعيد تنقلع فيه جذور الظلم والفساد. هذه النظرية يبشر بها الدين، ونهضة المهدي ترتبط بهذه البشرى.
ب - انتصار الحق والتقوى والسلام والعدل والحرية على الظلم والدجل والاستكبار والاستعباد.
ج - قيام حكومة عالمية واحدة.
د - عمران الارض بحيث لاتبقى بقعة خربة غير عامرة.
هـ - بلوغ البشرية حد النضج والتكامل يلتزم فيه الانسان طريق العقل والعقيدة، ويتحرر من اغلال الظروف الطبيعية والاجتماعية والغرائز الحيوانية.
و - استثمار ذخائر الارض الى أقصى حد ممكن.
ز - احلال المساواة التامة بين البشر في حقل الثروة.
ح - اقتلاع جذور الفساد كالزنا والربا والخيانة والسرقة والقتل وشرب الخمر، وخلو النفوس من العقد والاحقاد.
ط - زوال شبح الحروب وسيادة السلام والحب والتعاون والصفاء.
ي - المواءمة بين الانسان والطبيعة.
هذه الاهداف تلقي الضوء على ماهية مسألة المهدي، وكل واحدة منها تحتاج الي استدلال وتحليل ودراسة لا يسعها بحثنا هذا.

الانتظار الكبير

المستقبل الذي ينبغي ان تعقد عليه الامال، والذي شاءت الارادة الالهية ان يسير نظام العالم تجاهه، هو هذا الذي ذكرنا. والان ينبغي أن نعود الى موضوع انتظار الفرج الذي قسمناه في بدايه هذا الحديث الى قسمين: انتظار بناء حركي ملتزم عبادي، بل من أفضل العبادات، وانتظار مخرب معوق يبعث على الخمود والخمول والكسل والتقاعس، ويعتبر نوعا من "الاباحية". ذكرنا أن هذين اللونين من الانتظار ينطلقان من نوعين من التصور حول الحدث التاريخي العظيم المتمثل بظهور المهدي الموعود. وهذان التصوران ينتجان بدورهما من نوعين من التصور بشأن تطور التاريخ. نشرح فيما يلي هذين النوعين من الانتظار ونبدأ بالانتظار المخرب: 

الانتظار المخرب

بعض المؤمنين بظهور المهدي يتصورون أن نهضة هذا المنجي ذات طابع انفجاري محض، وناتجة فقط عن انتشار الظلم والجور والفساد والطغيان، أي أن مسألة الظهور نوع من الاصلاح الناتج عن تصاعد الفساد. هؤلاء يتصورون أن مسيرة البشرية تتجه الى انعدام العدل والقسط، والى زوال انصار الحق والحقيقه، والى استفحال الباطل. وحينما يصل هذا الانحدار الى نقطة الصفر يحدث الانفجار المرتقب، وتمتد يد الغيب لانقاذ الحقيقة - لا انصار الحقيقة - اذ لن يبقى للحقيقة انصار آنذاك. هذا التصور يدين كل اصلاح، لان الاصلاح يشكل نقطة مضيئة على ساحة المجتمع العالمي، ويؤخر الامداد الغيبي كما يعتبر هذا التصور كل ذنب وتمييز واجحاف مباحا لان مثل هذه الظواهر تمهد للاصلاح العام وتقرب موعد الانفجار. هذا التصور يميل الى مذهب الذرائع الذي يذهب الى أن الغاية تبرر الوسيلة. فاشاعة الفساد - بناءا على هذا التصور - أفضل عامل على تسريع ظهور المهدي وأحسن شكل لانتظار فرج ظهوره. اصحاب هذا التصور ينظرون الي الذنوب نظرة تفاؤل واستبشار ويعتبرونها عاملا مساعدا على انطلاق الثورة المقدسة الشاملة. هؤلاء ينظرون الى المصلحين والمجاهدين والامرين بالمعروف والناهين عن المنكر بعين الحقد والعداء… لانهم يعملون على تأخير ظهور المهدي. اصحاب هذا التصور - ان لم يكونوا هم من زمرة العاصين - ينظرون الى اصحاب المعاصي بعين الارتياح والرضى لانهم يمهدون لظهور القائم المنتظر.

تصور شبه ديالكتيكي 

الاتجاه المخرب في فهم قضية ظهور المهدي يشترك مع الاتجاه الديالكتيكي في معارضته للاصلاحات وفي تاييده لانواع الظلم والفساد باعتبارها مقدمة لانفجار مقدس، مع فارق بين الاتجاهين هو ان الاتجاه الديالكتيكي يعارض الاصلاحات ويؤكد على ضرورة تشديده الفوضى والاضطرابات انطلاقا من هدف مشخص يتمثل في تعميق الفجوات والتناقضات لتصعيد النضال. لكن هذا التفكير المبتذل في مسألة ظهور المهدي يفتقد هذه النظرة، ويرتأي زيادة الظلم والفساد من اجل الوصول الى النتيجة المطلوبة تلقائيا. هذا اللون من الفهم لمسألة ظهور المهدي وهذا النوع من الانتظار للفرج لا يرتبط على الاطلاق بالموازين الاسلامية والقرانية اذ انه يؤدي الى التعمد في تعطيل الحدود الاحكام الاسلامية بل الى نوع من الاباحية.

الانتظار البناء 

الآيات الكريمة التي تشكل أرضية التفكير حول ظهور المهدي المنتظر تتجه الى جهة معاكسة للنظرة السابقة. هذه الايات تشير الى أن ظهور المهدي حلقة من حلقات النضال بين أهل الحق وأهل الباطل، وأن هذا النضال سيسفر عن انتصار قوى الحق. وتتوقف مساهمة الفرد في تحقيق هذا الانتصار على انتمائه العملي الى فريق أهل الحق. هذه الايات التي تستند اليها الروايات في مسألة ظهور المهدي تشير الى أن المهدي تجسيد لآمال المؤمنين العاملين، ومظهر لحتيمة انتصار فريق المؤمنين: "وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض، كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني، لا يشركون بي شيئا..". ظهور المهدي الموعود تحقيق لمنه الله على المستضعفين ووسيلة لا ستخلافهم في الارض ووراثتهم لها. ظهور المهدي الموعود تحقيق لما وعد الله به المؤمنين والصالحين والمتقين في الكتب السماوية المقدسة:

"ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الارض يرثها عبادي الصالحون".

ثمة حديث معروف في هذا المجال يذكر ان المهدي "يملأ الله به الارض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا". هذا الحديث شاهد على ما ذهبنا اليه في مسألة الظهور لا على ادعاء ارباب الانتظار المخرب. هذا الحديث يركز على مسألة الظلم ويشير الى وجود فئة ظالمة وفئة مظلومة والى أن المهدي يظهر لنصرة الفئة المظلومة التي تستحق الحماية. ولو كان الحديث يقول ان المهدي "يملا الله به الارض ايمانا وتوحيدا وصلاحا بعدما ملئت كفرا وشركا وفسادا" لكان معني ذلك أن نهضة المهدي الموعود تستهدف انقاذ الحق المسحوق لا انقاذ انصار الحق، وان كان هؤلاء الانصار أقلية.
يروي الشيخ الصدوق عن الامام الصادق - عليه السلام:  "ان ظهور المهدي لا يتحقق حتى يشقى من شقي ويسعد من سعد".
الحديث عن الظهور يدور حول بلوغ كل شقي وكل سعيد مداه في العمل، ولا يدور حول بلوغ الاشقياء فقط منتهى درجتهم في الشقاوة. وتتحدث الروايات الاسلامية عن نخبة من المؤمنين يلتحقون بالامام فور ظهوره.
ومن الطبيعي أن هذه النخبة لا تظهر معلقة في الهواء بل لابد من وجود ارضية صالحة تربى هذه النخبة على الرغم من انتشار الظلم والفساد. وهذا يعني أن الظهور لا يقترن بزوال الحق والحقيقة، بل أهل الحق - حتى ولو قلوا فرضا - يتمتعون بكيفية عالية تجعلهم في مصافي المؤمنين الاخيار، و في مرتبة أنصار الحسين بن على - عليه السلام. الروايات الاسلامية تتحدث أيضا عن سلسلة من النهضات يقوم بها انصار الحق قبل ظهور المهدي، منها نهضة اليماني. مثل هذه النهضات لا يمكن أن تبتديء بساكن، ولا تظهر دون أرضية مسبقة. بعض الروايات تتحدث عن قيام دولة اهل الحق التي تستمر حتى ظهور المهدي.. حتي ان بعض العلماء أحسنوا الظن بدولة بعض السلالات الحاكمة، فظنوها انها الدولة التي ستحكم حتى ظهور المهدي. هذا الظن - وان كان ينطلق من سذاجة في فهم الوقائع السياسية والاجتماعية - يدل على استنباط هؤلاء العلماء من الروايات والاخبار المتعلقة بظهور المهدي ما يشير الي أن الظهور لا يقترن بفناء الجناح المناصر للحق والعدل والايمان، بل يقترن بانتصار جناح العدل والتقوي والصلاح على جناح الظلم والتحلل والفساد. الايات والروايات المرتبطة بظهور المهدي المنتظر تدل على أن ظهوره يشكل آخر حلقة من حلقات الصراع الطويل بين انصار الحق وانصار الباطل منذ بدء الخليقة. "المهدي المنتظر تجسيد لاهداف الانبياء والصالحين والمجاهدين على طريق الحق".
 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة