لا نستطيع تفسيراً لذلك إلاّ ما قد سبق من أن القضية كانت أعمق مما نخاله. فإنها ليست قضية استخلاف والد ولده فقط، بل هي تحويل الخلافة إلى ملك أموي عضوض. صرح به مروان بن الحكم في عهد عثمان إذ قال للناس المحتشدين حول البلاط يطالبون بحقوقهم الشرعية: ما تريدون من ملكنـا. إذاً هو مُلك لكم تريدون الإبقاء عليه بما أُوتيتم من قوة وسلطان.. وراحت الأحداث تباعاً كلها تؤكد هذا التفسير حتى جاء أحد الموالين لبني أمية فصعد المنبر في حشد يضم زعماء المسلمين ذلك اليوم، ومعاوية متصدر وإلى جنبه يزيد. فنظر إلى معاوية، ثم إلى يزيد ثم هز سيفه قائلاً: أمير المؤمنين هذا (معاوية).فإن مات فهذا (يزيد).وإلاّ.. فهذا.. وهز السيف !!!
فتقبل الناس خوفاً من آخر الثلاثة. ومات معاوية، وكتب يزيد إلى الولاة بأخذ البيعة له. وجاء كتابه إلى المدينة. وطلب حاكم المدينة من الحسين عليه السلام البيعة ليزيد، فأبى. وكان من الطبيعي أن يأبى. ثم حشد الحسين عليه السلام أهله، وأصحابه، وسار إلى مكة لإعلان ثورته، لا على يزيد فقط بل على الحزب الأموي، وعلى التوتر الذي يسود العالم الإسلامي أيضاً. ولا شك أنه سوف يربح القضية. وبقي عليه السلام في مكة المكرمة أياماً، يعرف الناس مكانته السامية من الرسول صلى الله عليه و آله وسابقته الناصعة للرسالة، وقدمه الأصيل في قضايا المسلمين. وارسل يزيد إلى اغتياله مائة مسلح.. فعرف الحسين عليه السلام ذلك، فتنكَّب الطريق، وقصد الخروج إلى الكوفة. لماذا ؟ لأسباب نوجزها فيما يلي:
1- لأنه إما أن يعلن الحرب على بني أمية وأنصارهم في مكة، وهو لا يريد ذلك لأنه يخالف قداسة البيت وحرمته أولاً، ولأنه إن ربحها لم يفد شيئاً، لأن من ورائه دولة مسلحة منتشرة قواها في كل مكان، في حين أن مكة تكفيها سرية تتجه من المدينة، حيث لاتزال حكومة الأمويين متمكنة هناك. فتطحنها طحناً، بينما الكوفة هي الآن أعظم قوة إسلامية على الإطلاق. أضف إلى ذلك أن هناك من أُجراء بني أمية كثيرون يلفقون عليه من الروايات ما هو بريء منها، كما فعلوا بالنسبة إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام . والحسين عليه السلام لا يهمه شيء كما يهمه معرفة الناس أنه على حق، وأن مناوئيه على باطل، حتى يُتبع نهج الحق الذي يمثله، ويترك نهج الباطل الذي يمثلونه. ولو أعلنها حرباً عليهم لكانت النتيجة أن يقتل بسيف هؤلاء الوافدين من قبل السلطة وتحت ألبستهم أسلحة الإجرام.
2- وفي مكة ابن الزبير وهو يزعم بأنه أحق بالأمر من الحسين عليه السلام ولا يهمه أن يتحد مع يزيد الذي يدعي الآن أنه من مناوئيه في سبيل القضاء على الحسين، كما صنع ذلك أبوه في معركة البصرة، حيث اصطف بجانب مناوئي علي عليه السلام ليحظى بالخلافة دون الإمام.
3- والإمام الحسين عليه السلام لم يكن يريد أن يشتغل به، وهناك القضية الكبرى حيث تحولت الخلافة في الشام إلى مُلك عضوض. وهذا انحراف يُجر الخلافة من حقٍّ إلى باطل، والأولى أشد وأمر من الثانية قطعاً.
4- إن مجرد سفره إلى العراق في حين يتقاطر الناس إلى مكة من كل حدب وصوب - يوم الثامن من ذي الحجة الحرام - إعلان كافٍ لهم عن هدفه، بل هو وحده كافٍ لتنبيه أهل الأمصار والأقطار النائية بما يحدث في العاصمة من حقيقة أمر الخلافة.
ثم سار بموكبه الحافل يقصد الكوفة، وقد أعلنت متابعة الإمام عليه السلام وأعطت البيعة له، وتواعدت على الحرب معه، كما كانت تحارب مع أبيه أهل الشام. ومسلم بن عقيل ابن عمه والٍ عليهم، نافذ الكلمة، مطاعٌ أمين. ثم اختلفت الرياح السود على الأوساط، وكما يبين الإمام عليه السلام نفسه، خذلته شيعته وأنصاره، ونقضوا بيعته، وتلاشت قواه تحت ترهيب قوة الشام وترغيبها. وهناك سبب آخر غيّر مجرى التاريخ، وهو التزام أنصار الحسين بالحق حتى في أشد الظروف وأعتاها. فهذا في جانب، وفي جانب آخر عدم ارتداع أهل الشام عن أي جريمة، وأي اغتيال وخدعة. كان مسلم بن عقيل الحاكم على الكوفة مطلق اليد. وكان عبيد الله بن زياد قد جاء إليها ليرجعها لبني أمية، ويرضي رجل من زعماء الشيعة يدعى هاني بن عروة. فعاده ابن زياد عله يستطيع أن يربحه. وكان مسلم حاضراً فأمره هاني أن يختفي في مخدع، فإذا جاء ابن زياد، والى يزيد وزعيم المعارضة الأموية في الكوفة، ضرب عنقه وتخلص من شره وشر يزيد من بعده. وجاء ابن زياد، وانتظر هاني خروج مسلم ساعة بعد ساعة تستطيل دقائقها ان لا يفوته الوقت. ومع ذلك فلم يوافه مسلم على الوعد، فأخذ ينشد أشعاراً يحرضه بتلميح على قتل ابن زياد، فأحس ابن زياد بالسر وخرج هارباً. فلما جاء مسلم، وبَّخه هاني على استمهاله فقال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله : " المسلم لايغدر ". فقول رسول الله هو الميزان، وهو المقياس الأول والأخير للحركة في منطق أنصار الحسين عليه السلام، لأنهم لايهدفون إلى غاية سوى بلوغ مرضاة الله تعالى، ولن تُبلغ مرضاته بمعصيته، ولا يطاع الله من حيث يعصى. وانقلبت الأمور.. وقتل مسلم.. وجيء بخبر شهادته إلى الحسين عليه السلام وهو في طريقه إلى الكوفة. وهو إذ ذاك أحوج ما يكون إلى أنصار يؤيِدونه وينصرونه، لأن أمامه الكوفة المخلوعة المغلوبة على أمرها، ووراءه مكة المحتشدة فيها قوى مناوئيه من أنصار بني أمية وغيرهم. ومعه الآن زهاء ألف من الأنصار، أشد ما يكون احتياجاً إلى الإبقاء عليهم بكل وسيلة. لكنه أبى إلاّ أن يصارحهم بالموضوع، ويبين لهم سقوط حكومته في الكوفة، وحرج موقفه، ويجيز لهم التخلي عنه إن شاؤوا. استمعوا إلى خطبته حينما سمع بسقوط الكوفة في أيدي بني أمية:
" أيها الناس: إنما جمعتكم على أن العراق لي، وقد أتاني خبر فظيع عن ابن عمي مسلم يدل على أن شيعتنــا قد خذلتنا. فمن منكم يصبر على حر السيوف، وطعن الأسنة فليأت معنا، وإلاّ فلينصرف عنّا ".
إنه لا يبتغي من وراء نهضته سوى الله. وإذاً فليعمل كما يريد الله صريحاً واضحاً فلا يخدع ولا يمكر. ثم حشد ابن زياد بعد استيلائه التام على الكوفة جيشاً باسم محاربة الترك والديلم، فلما اقتربت قافلة الإمام عليه السلام من الكوفة وجَّهه إليه ليقيّده إليه أو إلى الموت. وأول سرية لقيت الحسين عليه السلام من الجيش، كانت مكونة من ألف مقاتل، وعلى رأسها الحر بن يزيد الرياحي. الذي طلب من الإمام عليه السلام اما البيعة وإما قدوم الكوفة أسيراً.. فأبى الإمام عليه السلام وأخذ طريقاً وسطاً بين طريق الكوفة والمدينة. وأرسل الحر كتابـاً إلى ابن زياد. فأجابه بلزوم محاربته، وحشد إلى الإمام جيوشاً بلغ عددها أكثر من ثلاثين ألف رجل، فالتقوا على صعيد كربلاء التي تبعد عن بغداد اليوم مائةً وخمسة كيلومترات وعن الكوفة خمسة وسبعين كيلومتراً. وكان ذلك اليوم عصر التاسع من شهر محرم الحرام، حيث جاءت رسالة ابن زياد إلى عمر بن سعد قائد جيش بني أمية يأمره بالحرب بعد منع الماء عن حرم الرسول صلى الله عليه وآله واستمهلهم الإمام الحسين عليه السلام سواد الليل، حتى إذا أفصحت ليلة العاشر من المحرم عن صبح كئيب، زحف الجيش على مخيم أبي عبد الله عليه السلام وقاوم أنصاره - وهم اثنان وسبعون بطلاً من أشجع أبطال العالم الإسلامي - وصُرعوا واحداً بعد الآخر بعد ما أبلوا بلاءً حسناً. وقُتل أيضاً إخوة الإمام عليه السلام وعلى رأسهم بطل العلقمي أبو الفضل العباس عليه السلام واستشهد أبناؤه، حتى الرضيع في حضن والده، ولم يبق إلاّ الإمام عليه السلام فزحف إلى القوم وجاهد جهاداً عظيماً، وقتل من أهل الكوفة عدداً هائلاً، ولم تمض إلاّ ساعات حتى أصابه القدر سهمه الغدّار على يد حرملة الكاهلي لعنه الله، وأصابه الكفر برمحه على يد سنان بن أنس لعنه الله وبسيفه على يد شمر بن ذي الجوشن لعنه الله وأعد له جحيماً وعذاباً أليماً، فصرع شهيداً رشيداً ظامئاً مظلوماً، فعليه وعلى أنصاره ألف تحية وسلام. ولما وقعت الواقعة الرهيبة، وانتهت بمصرع السبط وأصحابه الأطهار على أرض كربلاء بأبشع إجرام عرفه التاريخ، دوّى صداها في العالم الإسلامي، وزلزل عرش بني أمية زلزالاً. ولم تمض مدة طويلة حتى اندلعت ثورات في كل مكان واستمرت حلقات متصلة، حتى انتهت بسقوط الدولة الأموية. وإن كان الأمر لم ينته بسقوط بني أمية تماماً، حيث انحرفت القيادة الإسلامية أيضاً عن مجراها الصحيح، إلاّ أن ثورة أبي عبد الله عليه السلام ونهضته الجبارة كوَّنت جبهة قوية متماسكة تقف دون أي انحراف يريده المجرمون للحق ومفاهيمه. والواقع أننا إذا تابعنا أحداث التاريخ بدقة، نرى أن كل دعوة صادعة ثارت على الطغيان في قرون متطاولة، إنما كانت نابعة عن حركة الإمام الحسين عليه السلام. وهكذا نستطيع أن نقول: إن نهضة الحسين عليه السلام ظلت قاعدة أصيلة للحركات الإصلاحية في التاريخ الإسلامي على طول الخط، وستظل هكذا إلى الأبد.