تأتي زيارة كربلاء وشَدِّ الرِّحال إليها من بلاد نائية تكرارا وتأكيدا لما يهدف إليه يوم عاشوراء ، ونجد تفسير ذلك مكتوباً في القطع المعلقة على قبر الحسين يتلوها الزائر ساعة دخوله الحضرة المقدسة ، وخروجه منها ، وقد جاء فيها :
( إِنِّي سِلمٌ لِمَن سَالَمَكُم ، وَحَربٌ لِمَن حَارَبَكُم ، مُحَقِّقٌ لِمَا حَقَّقْتُم ، مُبطِلٌ لِمَا أَبْطَلتُم ، فَأَسأَلُ اللهَ أَن يَجعَلَنِي مِن خِيَار مُوَالِيكُم ، العامِلِينَ بِمَا دَعَوتُم إِليهِ ، أَهتَدِي بِهَدْيِكُم ، وَأَن يَجعَلَ مَحْيَايَ مَحْيَا مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَمَمَاتِي مَمَاتَ مُحَمِّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ).
فيتلو الزائر هذه الكلمات وأمثالها بقلب خاشع ونفس مطمئنة في بقعة ارتفع فيها صوت الحق ضد الباطل ، وخفقت رايات الهدى ضد الضلال ، وشَعَّ فيها نور العدالة ليمحو ظلام الجور ، وأُرِيقت دماء زكية لتطهر الأرض من رجس الاستعباد .
لم تعرف الكرة الأرضية مناصراً للحقِّ في عهد يزيد غير هذه البقعة الصغيرة المُسَمَّاة بـ "أرض كربلاء" ، فيقصدها الزائر لِيُشهِدَ الله والناس على نفسه أنه لا يتبع إلا الحق ، ولا يناصر إلا أهله ، وأنه عليه يحيا ويموت ، يحيا حياة محمد وآل محمد ، ويموت ممات محمد وآل محمد صلى الله عليه وآله ، فليس معنى زيارة كربلاء تأليه الأحجار والأخشاب ، وعبادة الأرض والتراب.
زارَ أحد شعراء المسلمين قبر الحسين عليه السلام وبيَّن الغاية من زيارته ، والهدف من رحلته ، فقال : إني زرتُ قبرَ الحسين عليه السلام وشَمَمْتُ ثراه ، كي يَتَسَرَّب إلى نفسي نسيم الإباء والكرامة ، ويهب على قلبي ريح الحق والعدالة ، وعفرت خدي بالتراب حيث يضع ، وقطع خد الحسين عليه السلام ، ولم يخضع لظالم ، ولثمت أرضاً وطأها الحسين عليه السلام ، لأن خيل الطغاة جالت على صدره وقلبه وظهره وصلبه عليه السلام ، ولم يُهَادِن ولم يمالئ من سلب الشعب حريته ، والأمة حقوقها.
شَمَمتُ ثَرَاكَ فَهَبَّ النَّسـيمُ ** نَسِيم الكَرامَةِ مِن بَلقَعِ
وَعَفَّرتُ خَدِّي بِحَيثُ استَرَاحَ ** خَدٌّ تَفَرَّى وَلَم يَخضَعِ
ولا يبتغي الزائر الشاعر بعد هذا الدليل دليلاً على قداسة غايته ونبل مقصده ، وأي دليل أصدق وأبلغ وأوضح على عظمة بقعة دفن فيها من نثرت السيوف لحمه دون رأيه وضميره ، ورفع رأسه على الرمح دون إيمانه وعقيدته ، وأطعم الموت خير البنين والأصحاب من الكهول إلى الشباب إلى الرضع دون مبدئه ودعوته.
وَمَاذا أَأَروَعُ مِن أَن يَكُـونَ ** لَحمُكَ وَقفاً عَلَى المَبضَعِ
وأن تَتَّقِـي دُون مَا تَرتَـأِي ** ضَمِيرُكَ بالأَسَلِ الشُّرَّعِ
وَأنْ تُطعِمَ المَوتَ خَيرَ البَنِينَ ** مِنَ الأَكهَلِينَ إِلَى الرُّضَّعِ
إن يوم عاشوراء ، وزيارة كربلاء ، هما رمز الحرية والمساواة بين الأسود والأبيض ، والعربي والأعجمي ، والملك وشعبه ، وأنه لا فضل إِلا لمن جاهد وكابد في سبيل هذه المساواة ، فلا ظالم ومظلوم ، ولا جائع ومتخوم.