قصة مؤثرة جديدة تخرج من رحم المآسي التي اختبرها الكثير من العراقيين، من أمثال مليحه محمد رشيد، هذه الأم التي اعتقدت أن رضيعها لقي حتفه، قبل أن تكتشف بعد 31 عاما أنه على قيد الحياة، وقد غدا شابا.
كانت تعيش في مدينة حلبجة التابعة لمحافظة السليمانية شمالي العراق، لكن في عام 1988، استهدف النظام العراقي آنذاك المدينة بهجوم كيميائي، اضطرت على إثره التوجه لإيران لتلقي العلاج مع عائلتها.
لم تنته مأساة المرأة عند هذا الحد، إذ قام النظام العراقي ذاته باستهداف محافظة كرمانشاه التي كانت تعيش فيها غربي إيران، بهجوم آخر فقدت على إثره طفلها الرضيع البالغ من العمر حينها 9 أشهر.
تفاصيل حزينة لسيدة شاءت الأقدار أن تعيد إليها ابنها بعد مرور نحو 31 عامًا على مجزرة “حلبجه” تجسد مأساة جديدة لأحداث دامية وقعت في 16 مارس/ آذار 1988، حيث قام نظام الديكتاتور صدام بإلقاء قنابل كيميائية من 8 طائرات من طراز “ميغ-23” الحربية على منطقة “حلبجه”، التي تقطنها غالبية كردية.
العملية سميت بـ”الأنفال”، وقتل خلال الهجوم على المدينة أكثر من 5 آلاف شخص، بينهم مدنيون من “حلبجه”، وجنود إيرانيون وقوات من البيشمركة وأصيب أكثر من 7 آلاف آخرون.
وصباح يوم الهجوم الكيميائي الذي نفذته طائرات صدام على حلبجة الواقعة على الحدود الإيرانية، كان الابن صالح يبلغ من العمر 9 أشهر فقط، وتم نقل الأسرة حينها إلى محافظة كرمانشاه لتلقي العلاج بعد المجزرة.
لكن بسبب الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) التي وقعت في تلك الفترة، شن نظام صدام غارة جوية على كرمانشاه، ما أسفر عن حدوث حالة من الفوضى فقدت خلالها الأم طفلها الرضيع.
وفي حديث للأناضول، عادت الأم على ما شهدته خلال تلك الفترة، حيث ذكرت أنها في تلك الأثناء أخذت تبحث عن طفلها في المخيمات التي كان يقيم فيها اللاجئون العراقيون بإيران، وفي المستشفيات لكنها لم تستطع العثور عليه.
ولاحقا، عادت الأم مليحة إلى حلبجة ثانية برفقة بقية أفراد أسرتها، وتقدمت بطلب إلى محكمة السليمانية، حيث أعلمت الجهات المعنية بأن نجلها الرضيع المدعو خليل محمد صالح، لقي حتفه في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1988.
وفي الوقت الذي كانت تظن فيه العائلة أن طفلها الرضيع قتل مع آخرين في الهجوم على المدينة الإيرانية، كان صالح الصغير قد تبناه زوجان إيرانيان.
الأم الثانية، وهي إيرانية وتدعى معصومه مهدي پور، تحدثت إليها الأناضول، وذكرت أنها قابلت الطفل صالح في المستشفى التي يعمل فيها زوجها منوچهر إسماعيل، فقامت باصطحابه إلى محافظة “قم” التي كانا يعيشان فيها، جنوبي العاصمة طهران؛ بغرض تبنيه.
الأم بالتبني مهدي پور، سجلت الطفل الرضيع في السجل المدني بإيران تحت اسم محمد أمين، وأخبرت نجلها بالتبني كامل تفاصيل تبنيه، بعد تخرجه من كلية الحقوق، وهو يجري استعداداته للزواج.
الابن صالح الذي علم بالحقيقة وهو في الـ24 من عمره، قرر خوض مغامرة طويلة تحتاج جهودًا شاقة، ومثابرة غير عادية للعثور على عائلته.
واستهل الابن هذه المغامرة بالتوجه إلى محافظة كرمانشاه أولًا، وبدأ في جمع معلومات عن الأطفال المفقودين في الفترة التي شن فيها صدام هجومه على المدينة عاصمة المحافظة.
صالح الذي علم أنه من الممكن أن يكون أحد الأطفال المفقودين في مدينة حلبجه، قاده تفكيره إلى التوجه لمحافظة السليمانية العراقية التي تتبعها المدينة التي شهدت مجزرة صدام.
وفي المدينة العراقية، ظهر صالح على شاشة تلفزيون محلي، ليقص حكايته مع لقمان عبد القادر رئيس جمعية ضحايا الهجوم الكيميائي على حلبجة.
الأم الحقيقية، وبمجرد أن رأت نجلها على شاشة التلفاز، هرولت مباشرة إلى الهاتف، وقالت عن تلك اللحظات للأناضول: “كانت لدي رغبة عارمة لرؤيته ولو لمجرد دقيقة واحدة. وعند أول مرة التقينا فيها معًا انخرطنا في البكاء”.
وتابعت “لقد شعرت بأنه إبني، إذ أحسست عند رؤيته بشعور غريب دفعني للقول بأنه ابني من الوهلة الأولى”.
واستطردت قائلة: “حين ظهر خليل على شاشة التلفاز عرفته، قلت للمحيطين بي: هذا ولدي خليل فلذة كبدي.
وعلى الفور اتصلت هاتفياً بلقمان عبد القادر، رئيس جمعية ضحايا هجوم حلبجه، وطالبت منه أن يصطحبني إليه (في إشارة لنجلها)، فسألني بدوره قائلا: كيف عرفتِ إنه نجلك؟. فقلت له: ليس لدي أي دليل على ذلك لكنه ابني”.
وبعد أن التقت الأم نجلها عن طريق لقمان عبد القادر، قررت محكمة حلبجة إجراء تحليل البصمة الوراثية “دي إن أي” للتأكد من الأمر.
الاختبار جرى في العاصمة طهران، وأرسلت نتائجه التي أكدت وجود علاقة بين الأم والابن، إلى محكمة حلبجه التي رفضت هذه النتائج، وطلبت إجراء التحليل ثانية في بريطانيا لكن الأسرة تقدمت بطلب للمحكمة هذه المرة لإجرائه في أربيل بالعراق، لتثبت التحاليل ثانية أن صالح نجل الأم مليحة. وعلى إثر ذلك صادقت محكمة حلبجة على أن خليل محمد صالح هو نجل مليحة محمد رشيد.
وخلال حفل أُقيم بحلبجة يوم 17 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وبحضور العائلة الإيرانية، استعاد النجل صالح هويته العراقية، ثم عاد ثانية إلى إيران حيث يعمل خبيراً في الطب الشرعي.