بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والسلام على سيد الانبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين.
اخوتنا الاكارم ... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اهلاً بكم في موضوع جديد حول صفة يحبها الله تعالى، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: «ان الله جواد، يحب الجود، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفاسفها». وفي ظل قوله تعالى: «وانك لعلى خلق عظيم» (سورة القلم: ٤) يفسر الامام الصادق عليه السلام الخلق العظيم بـ: السخاء، وحسن الخلق.
اما حد السخاء، فقد سئل الامام الصادق عليه السلام فبينه بقوله: «تخرج من مالك الحق الذي أوجبه الله عليك، فتضعه في موضعه». وفي رواية أخرى قال سلام الله عليه: «ليس السخي المبذر الذي ينفق ماله في غير حقه، ولكنه الذي يؤدي الى الله عزوجل ما فرض عليه في ماله، من الزكاة وغيرها».
والسخاء - أيها الاخوة الاعزة- صفة حميدة، تعبر عن شجاعة القلب، وعن الرحمة بالآخرين وحب الخير لهم، كما تعبر عن انعتاق النفس من شدة تعلقها بحطام الدنيا من الأموال وغيرها. والسخي المؤمن انسان متق ملب لأمر الله تعالي، فهو يؤدي الزكاة والخمس وما عليه، وما يستطيعه من الصدقات والهبات، يقدمها للمحتاجين والمعوزين من غير امتنان أو ايذاء، كذا يصفه الله تبارك وتعالى في كتابه المجيد: «الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذىً، لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون / قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم» (سورة البقرة : ۲٦۲-۲٦۳).
والسخي اخوتنا الافاضل انسان عاقل، يعلم ان ما بيده هو عطاء من الله تبارك وتعالى فكيف يقبل عطاء الله عزوجل ثم لا يقبل امره بالانفاق منه على المساكين والفقراء؟! ان السخي المؤمن يرى ان الملك الحقيقي للأموال هو لله جل وعلا، وانما للانسان ملك اعتباري، يمتحن فيه... فالخطاب الالهي القادم: «ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم اول مرّة وتركتم ما خَوَّلناكم وراء ظهوركم» (الانعام: ۹٤).
فالانسان مخول في الاموال مدة، فاذا كان سخياً فقد عبر عن ايمانه اولاً، وعن تخلقه بالاخلاق الرفيعة ثانية، روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: «السخاء خلق الله الاعظم»، وعن الامام جعفر الصادق عليه السلام قوله: «السخاء من اخلاق الانبياء، وهو عماد الايمان، ولا يكون مؤمن الا سخي، ولا يكون سخياً الا ذو يقين وهمة عالية، لان السخاء شعاع نور اليقين، ومن عرف ما قصد، هان عليه ما بذل».
اخوتنا الاعزة الكرام ... اذا كان لكل خلق شرفه، فما هو شرف السخاء يا ترى؟ ان السخاء احد أبواب البر، وهو معبر عن سمو النفس وحبها باشراك المحرومين في التمتع بنعم الله تبارك وتعالى، فالسخي متخلص من حالة الانانية وايثار الخير لنفسه دون الآخرين ولذا فهو محبب الى القلوب موقر بين الناس، وهو عند الله تعالى مكرم مقرب..
قال النبي صلى الله عليه وآله: «السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة... والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، قريب من النار». وفي كتاب الله تعالى نقرأ: «فأما من اعطى واتقى / وصدق بالحسنى / فسنيسره لليسرى / واما من بخل واستغنى / وكذب بالحسنى / فسنيسره للعسرى / وما يغني عنه ماله اذا تردى» (سورة الليل: ٥-۱۱).
والسخي تضفى عليه صفة الكرامة، اضافةً الى محبة الناس له لانه حيي، يستحي أن يسأل فلا يجيب، بل يستحي أن يرى سائلاً او محتاجاً ثم لا يبادر الى اعانته، وهذا هو السخاء الحق، لقول الامام الصادق عليه السلام: «السخاء ما كان ابتداءً، فأما ما كان من مسألة فحياء وتذمم»، فيقدم السخي على الخير، فيما ينكمش البخيل فلا يكرم نفسه وان ازدرته العيون، ولذا يقول أمير المؤمنين علي عليه السلام: «السخي شجاع القلب، والبخيل شجاع الوجه».
وفي الآخرة - ايها الاخوة الاحبة- الى أين مآل السخاء؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: «السخاء شجرة في الجنة أصلها، وهي مطلة على الدنيا، من تعلق بغصن منها اجتره الى الجنة». ويقول صلى الله عليه وآله: يؤتى يوم القيامة برجل فيقال: احتج، فيقول: يارب، خلقتني وهديتني، وأوسعت علي.. فلم ازل أوسع على خلقك وأنشر عليهم لكي تنشر علي هذا اليوم رحمتك وتيسره، فيقول الرب تعالى: صدق عبدي، ادخلوه الجنة. ويقول صلى الله عليه وآله: «ان السخاء من الايمان، والايمان في الجنة». وعن الامام الكاظم عليه السلام قال: «السخي الحسن الخلق في كنف الله، لا يستخلي الله منه حتى يدخله الجنة، وما بعث الله نبياً ولا وصياً الا سخياً، ولا كان أحد من الصالحين الا سخياً».
وكان من شرف السخاء ان اصبح سبيلاً للهداية او النجاة، فقد رأى النبي صلى الله عليه وآله عدي بن حاتم الطائي فقال له: ان الله دفع عن أبيك العذاب الشديد، لسخاء نفسه. وكان صلى الله عليه وآله يوصي بمسامحة الكريم اذا أخطأ، تكريماً لسخائه، فيقول: «تجافوا عن ذنب السخي، فان الله اخذ بيده كلما عثر، وفاتح له كلما افتقر».
وقد قدم محارب يهودي لرسول الله صلى الله عليه وآله، فنزل جبرئيل عليه السلام يقول: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول: لا تقتله، فإنه حسن الخلق، سخي في قومه. فأسلم اليهودي.
وعن الامام الباقر عليه السلام: أتي النبي صلى الله عليه وآله بمجموعة من المشركين المحاربين فأمر بقتلهم وخلى رجلاً من بينهم. فقال الرجل: كيف أطلقت عني من بينهم؟ فقال: اخبرني جبرئيل عن الله جل جلاله، ان فيك خمس خصال يحبها الله ورسوله: الغيرة على حرمك، والسخاء، وحسن الخلق، وصدق اللسان، والشجاعة. فلما سمعها الرجل أسلم وحسن اسلامه، وقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله قتالاً شديداً... حتى استشهد.
الراوي: جاء رجل من الانصار الى الامام الحسين عليه السلام يسأله حاجة، فقال له الحسين عليه السلام: يا أخا الانصار، صن وجهك عن بذلة المسألة، وارفع حاجتك في رقعة، فاني آت فيها ما سارك ان شاء الله. فكتب الرجل:
الرجل: يا أبا عبد الله، ان لفلان علي خمسمائة دينار، وقد ألح بي، فكلمه ينظرني الى ميسرة.
الراوي: فلما قرأ الامام الحسين عليه السلام الرقعة دخل الى منزله، فأخرج صرةً فيها ألف دينار وقال له: اما خمسمائة فاقض بها دينك، وأما خمسمائة فاستعن بها على دهرك. ولا ترفع حاجتك الا الى أحد ثلاثة: الى ذي دين، أو مروة، أو حسب... فأما ذو الدين، فيصون دينه. وأما ذو المروة، فإنه يستحيي لمروته. وأما ذو الحسب فيعلم انك لم تكرم وجهك ان تبذله له في حاجتك، فهو يصون وجهك ان يردك بغير قضاء حاجتك.
الراوي: ووفد اعرابي الى المدينة المنورة، فسأل عن أجود الناس وأسخاهم واكرمهم، فدل على الامام الحسين عليه السلام، فدخل فوجده مصلياً، فوقف الاعرابي بازائه وانشأ يقول:
لم يخب اليوم من رجاك ومن
حرك من دون بابك الحلقة
أنت جواد وانت معتمد
أبوك قد كان قاتل الفسقة
لولا الذي كان من اوائلكم
كانت علينا الجحيم منطبقة
الراوي: وبعد السلام... قال الامام الحسين عليه السلام لخادمه قنبر: هل بقي من مال الحجاز شيء؟ قال قنبر: نعم، أربعة آلاف دينار. قال عليه السلام: هاتها، فقد جاء من هو أحق بها منا. ثم نزع عليه السلام برديه من على ظهره الشريف ولف بهما الدنانير الاربعة آلاف، وأخرج يده الكريمة من شق الباب حياءً من الاعرابي، وأنشأ يخاطبه:
خذها... فاني اليك معتذر
واعلم بأني عليك ذو شفقة
لو كان في سيرنا الغداة عصاً
امست سمانا عليك مندفقة
لكن ريب الزمان ذو غير
والكف مني قليلة النفقة
فأخذها الاعرابي وبكى.. فقال له الامام الحسين عليه السلام: لعلك استقللت ما أعطيناك.
الرجل: لا، ولكن كيف يأكل التراب جودك؟!
الراوي: بكى الاعرابي حسرة من أن يدفن مثل هذا السخي الجواد تحت التراب، ولم يعلم ان التراب لم يأكل جوده، ولا بدنه، وانما اكلته سيوف أعداء الله ورماحهم، فأعملوا في بدنه القدسي حرابهم وسهامهم، وسيوف الحقد والكفر، والخبث والغدر.