الحمد لله على جميع النعم والآلاء، والصلاة والسلام على المصطفى سيد المرسلين والانبياء، وعلى آله الهداة الامناء.
اخوتنا المستمعين الافاضل... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله تعالى في هذا اللقاء وموضوع آخر جديد يدور حول «الشكر» الذي عرف بانه معرفة الاحسان والتحدث به، او الاعتراف بالنعمة على جهة تعظيم المنعم.
وشكر العبد ربه هو من العبادات القلبية، يستشعر العبد فيها عظمة المعبود ويقر فيها المخلوق بعظيم فضل الخالق تبارك وتعالى... وذلك امر واجب لقول الله عزوجل في محكم تنزيله: «واعبدوه واشكروا له اليه ترجعون» (سورة العنكبوت: ۱۷) وقوله عز من قائل: «فاذكروني اذكركم واشكروا لي ولا تكفرون» (سورة البقرة: ۱٥۲).. وخاطب رب العزة نبيه الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: «بل الله فاعبد وكن من الشاكرين» (سورة الزمر: ٦٦) وكما ان الله تعالى خلقنا لعبادته فقال: «وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون» (الذاريات:٥٦) كذا جعل سبحانه من العبادة شكره، وجعل ترك الشكر معصيةً تستوجب كفر النعم وغيره فقال عزوجل: «لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد» (ابراهيم: ۷) «انا هديناه السبيل اما شاكراً واما كفوراً» (سورة الانسان: ۳)
فالشكر - ايها الاخوة الاكارم- فريضة واجبة اوجبها العقل والضمير والشرع وهو امر ممدوح ومطلوب يعطي للانسان انسانيته وكرامته... قال امير المومنين علي عليه السلام: «الشكر زينة الغنى. شكر النعمة، أمان من حلول النقمة. ما انعم الله على عبد نعمةً فشكرها بقلبه، الا استوجب المزيد فيها قبل ان يظهر شكرها على لسانه». وجاء عن الامام علي الهادي عليه السلام: «الشاكر اسعد بالشكر منه بالنعمة التي أوجبت الشكر، لأن النعم متاع، والشكر متاع وعقبى».
اجل.. فالله تعالى غني عن شكرنا، انما الشكر ينفعنا نحن العباد، فهو مدعاة الامان، وسبب لحصول الرحمة ودخول الجنان.
اخوتنا الاعزة... اذا كان لكل امر مدعىً مقتضياته فما هي مقتضيات الشكر؟ يقول علماء الاخلاق: يقتضي للشاكر ان يكون طائعاً لله عزوجل، غير عاص له... قال الامام علي عليه السلام: «لو لم يتوعد الله سبحانه على معصيته، لكان يجب ان لا يعصى، شكراً لنعمه»، وقال الامام الصادق (عليه السلام): «شكر النعمة اجتناب المحارم...».
ويتقضي للشاكر ان يكون قانعاً راضياً بما اعطاه الله تعالى، واثقاً بما عند الله سبحانه، صابراً على قضاء الله. وينبغي له ان يعلم، بان النعم التي تصله انما تأتيه بلطف الله ورحمته ورافته، وليس باستحقاق منه.
ويجب على الشاكر ان يستيقن انه عاجز عن اداء الشكر حق الاداء، قال امير المومنين عليه السلام: «من شكر الله سبحانه وجب عليه شكر ثان، اذ وفقه لشكره، وهو شكر الشكر»، وفي احدى مناجاته يقول الامام علي ابن الحسين زين العابدين عليه السلام: «فكيف لي بتحصيل الشكر، وشكري اياك يفتقر الى شكر؟! فكلما قلت: لك الحمد، وجب علي لذلك ان اقول: لك الحمد».
وقد اوحى الله تعالى الى موسى عليه السلام: يا موسى اشكرني حق شكري، فقال: يارب كيف اشكرك حق شكرك، وليس من شكر اشكرك به الا وانت انعمت به علي؟! فقال: «يا موسى شكرتني حق شكري حين علمت ان ذلك مني». وجاء عن الامام الصادق عليه السلام قوله: «تماما لشكر اعتراف لسان الستر خاضعاً لله تعالى بالعجز عن بلوغ ادنى شكره، لان التوفيق للشكر نعمة حادثة يجب الشكر عليها...».
ومن هنا ايها الاخوة الاعزة نفهم بعض اسباب بكاء المعصومين عليهم السلام، من الانبياء والاوصياء، في دعواتهم، فيستغفرون ربهم اذ يشعرون بالعجز عن تادية شكره تبارك وتعالى. وتلك مناجاة الامام السجاد عليه السلام يقول فيها:
«الهي... اذهلني عن اقامة شكرك تتابع طولك، واعجزني عن احصاء ثنائك فيض فضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف عوائدك، واعياني عن نشر عوارفك توالي اياديك...».
واخيراً... ايها الاخوة الاحبة لا ينبغي للشاكر ان يكتفي بشكر اللسان، فالشكر الاهم هو شكر العمل، كما قال سبحانه في توجيه آل داود عليه السلام: «اعملوا آل داوود شكراً» (سبأ: ۱۳) وشكر النعم وضعها في المواضع التي يرتضيها الله عزوجل، من خلال أداء الحقوق الشرعية، واعانة الفقراء والمساكين والمحرومين.. قيل للامام الصادق عليه السلام: هل للشكر حد اذا فعله العبد كان شاكراً؟ قال: «نعم.. يحمد الله على كل نعمة عليه في اهل ومال، وان كان في ماله حق اداه...».
وتتعدد صور الشكر لله جل وعلا، فتكون في ادعية ومناجاة، وفي صلوات وسجدات وفي هبات ومساعدات واحياناً يكون في حسن الخلق كالعفو... يقول الامام علي عليه السلام: «اذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه».
هكذا يشكر الله تعالى في صور عديدة، ومجالات كثيرة ومجالات شتى، حتى يكون الشكر لله سبحانه من خلال شكر عباده المحسنين... عن الامام علي بن الحسين عليه السلام قال: يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: اشكرت فلاناً؟ فيقول: بل شكرتك يارب، فيقول: «لم تشكرني اذ لم تشكره!» وجاء عن الامام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه: ان الله عزوجل... امر بالشكر له وللوالدين فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله. وقال عليه السلام: «من لم يشكر المنعم من المخلوقين، لم يشكر الله عزوجل».
الراوي: اتي الحجاج بن يوسف الثقفي بقوم اسرى كانوا قد خرجوا عليه فامر بقتلهم وبقي منهم واحد اجل قتله الى اليوم الثاني قال الحجاج لقتبة بن مسلم - وكان سجاناً عنده-:
الحجاج: ليكن عندك، هذه الاسير وتغدو به علينا.
الاسير: هل لك في خير؟
قتيبة: وما هو يا هذا؟!
الاسير: ان عندي ودائع للناس، وان صاحبك الحجاج لقاتلي غداً، فهل لك ان تخلي سبيلي لأودع اهلي واطفالي، واعطي كل ذي حق حقه، وأوصى بما علي ومالي، والله تعالى كفيل لي ان ارجع اليك بكرةً قبل طلوع الشمس.
قتيبة: ما هذا الهواء الذي تقوله يا رجل.
الاسير: ارجوك يا هذا، لله على ان اعود اليك.
قتيبة (بحسرة): اذهب، اذهب يا رجل، على ان تعود الى مبكراً غداً.
الراوي: وما ان توارى الاسير حتى ندم قتيبة وكأنه انتبه الى خطاً كبير قد يودي بحياته عند الحجاج اذا لم يعد الاسير... وبات اطول ليلة لم يفارقه فيها الهم والقلق، فلما اصبح سمع طرقات على الباب.
قتيبة (بعد فتحه الباب): من؟! انت هذا؟! ارجعت ايها الاسير؟!
الاسير: اجل، اتريد الا ارجع وقد جعلت الله تعالى كفيلاً لي؟!
قتيبة: هيا هيا لنذهب الى الحجاج.
الاسير: حسناً حسناً لنذهب.
الراوي: فأحضر قتيبة الاسير الي الحجاج وقص على الحجاج قصته، فاراد الحجاج ان يكا فيء سجانه قتيبة فاق له:
الحجاج: يا قتيبة، هذا الاسير وهبته لك، فهو عبد مملوك لك.
قتيبة: ايها الرجل، اذهب اين شئت فانت حر طليق ولا حاجة لي اليك.
الاسير: اللهم لك الحمد... اللهم لك الحمد...
قتيبة (مع نفسه): عجيب هذا الرجل، لا قالس لي: شكراً ولا قال لي: احسنت! انه مجنون ورب الكعبة.
الراوي: فلما كان اليوم الثاني جاء الاسير الى قتيبة فقال له: يا قتيبة بن مسلم جزاك الله عني افضل الجزاء والله ما نسيت امس ان اشكر لك ما صنعت معي من احسان ولكني كرهت ان اشرك مع شكري لله تعالى شكر احد غيره!.