الحمدلله، وأفضل الصلاة على محمد حبيب الله، وعلى آله الهداة أولياء الله.
اخوتنا الأفاضل... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، واهلاً بكم في لقائنا المتجدد هذا معكم، وحديث آخر حول صفة خطيرة، وخطيرة جداً ... هي الكذب.
وابتداءً، لابد ان نعلم ايها الاخوة أن اللسان من نعم الله الكبرى، وهو أداة التعبير ووسيلة التفاهم، لكنه في الوقت نفسه أخطر عضو في الانسان، لأنه رحب الميدان، فمنه تنطلق أسباب الهداية والخير، أو أسباب الغواية والشر.... قال الامام محمد الباقر عليه السلام: «إن هذا اللسان مفتاح كل خير وشر...».
واللسان لهذا السبب، ينبغي أن لا يطلق في كل مجال وكل حديث،... وأن يحفظ من الآفات الخطيرة: كالغيبة والنميمة، والكذب. والكذب يعرف بأنه الاخبار عن الامور بخلاف واقعها، منبعثاً عن العداوة أو الحسد أو الغضب أو الطمع، أو العادة الحاصلة من مخالطة الكذابين ... أو منبعثاً أحياناً عن المزاح!
ويكون الكذب وسيلةً لازواء الحقيقة واخفائها، وأسلوباً لتضليل السامع وخداعه وايقاعه في الجهل والتوهم، حتى يجره ذلك الى العداوة، أو اتخاذ موقف ظالم حسب تصوره بناءً على تصديقه للأكاذيب التي تصدر بأشكال مختلفة، منها:
قول الزور، وهو الباطل المضلل، وقد قرنه الله تعالى مع الشرك في النهي، فقال جل وعلا: «واجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور» (الحج: ۳۰).
واليمين الكاذبة، وغالباً ما يبتلى بها المتاجرون الذين يحلفون فيكذبون ويأثمون، من أجل أن تروج بضاعتهم، ويقتطعوا أموال الناس بهذه اليمين الكاذبة، وقد عبر الرسول صلى الله عليه وآله بأنهم الفجار.
والبهتان هو الآخر من صور الكذب وألوانه، يكون باتهام الآخرين والاساءة الى سمعتهم، وسمي البهتان لأنه يحير السامع ويدهشه... وعقوبته هكذا: قال النبي صلى الله عليه وآله: «من بهت مؤمناً او مومنة، او قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله على تل من نار، حتى يخرج مما قاله فيه».
والوعد الكاذب، وهو صفة المنافقين، لقول رسول الله صلى الله عليه وآله: «ثلاث من كن فيه فهو منافق، وان صام وصلى وزعم انه مسلم: اذا حدث كذب، واذا وعد أخلف واذا ائتمن خان».
ومن الكذب الخطير.. الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله، وعلى الائمة عليهم السلام، اما بنقل غير دقيق أو تحريف لمعنى عقائدي، او حكم شرعي... وهو من الكبائر العظمى، وفي الحديث النبوي الشريف: «من كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار».
ومن الصور الأخرى للكذب - اخوتنا الأعزة الاكارم- زخرف القول، وهو من عمل شياطين الجن والانس، وفيه الخداع والتضليل والتمويه، لقلب الحقائق وتشويه الوقائع. ويرافق هذا نوع آخر من الكذب يدعى بـ«الأراجيف» يطلقها أعداء الحق، لإحداث التزعزع، وتمكين الشكوك والبلبلة في نفوس المؤمنين، وهو من عمل المنافقين وأساليهم.
بعد هذا - ايها الاخوة الاحبة - نتساءل: بماذا يتصف الكذاب؟! قيل: انه خائن، لقول النبي الاكرم «صلى الله عليه وآله وسلم» كبرت خيانة ان تحدث اخاك حديثاً، هو لك مصدق، وانت له به كاذب. وقد حذر منه امير المؤمنين عليه السلام فأوصى: «اياك ومصادقة الكذاب، فإنه كالسراب، يقرب عليك البعيد، ويبعد عنك القريب».
والكاذب منافق، يعتقد بشي ويظهر بلسانه خلافه، وقد قال رسول الله صلي الله عليه وآله: الكذب باب من أبواب النفاق. والى ذلك فهو ظالم، فربما بكذبه افترى وشهد على مظلوم شهادة زور، وبهت بريئاً واتهم مؤمناً، وربما كان الأظلم كما في قوله تعالى: «فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه، أليس في جهنم مثوىً للكافرين»؟! (سورة الزمر:۳۲)
والكاذب مريب، يشك في كلامه، ويرتاب من نواياه وقد دفعه الكذب الى التشكيك والتضليل والبهتان والتهمة والظلم والانتقام... وهو الجري بذلك على هتك الحرمات، وارتكاب المعاصي والموبقات، والمتخذ بين الناس أساليب الحيل والمخادعات! فهو شرير مريب: قال الامام الباقر عليه السلام: «ان الله عزوجل جعل للشر أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الاقفال الشراب (أي الخمر)، والكذب شر من الشراب»، وقال الامام العسكري عليه السلام: «حطت الخبائث في بيت، وجعل مفتاحه الكذب».
واما آثار الكذب - أيها الاخوة- فكثيرة، وخطيرة... أخروية، ودنيوية. منها: مقت الله سبحانه وعقابه للكاذب... منها نقصان الرزق، واحتقار المجتمع للكاذب، وربما افتضح فأهين وازدريت شخصيته بين الناس ورفعت الثقة عنه، ولهذا يقول الامام امير المؤمنين عليه السلام: «دع الكذب تكرما ان لم تدعه تأثماً».
والآن... وصلنا الى المحطة المهمة في الكذب، وهي كيف علاجه وهو الداء الخبيث الخطير؟!
قيل: لابد من التأمل في أسباب الكذب للعمل على التخلص منها، وفي آثار الكذب للتهيب منها... وهنا لابد من مراجعة النصوص الشريفة في ذلك: آيات وروايات، للوقوف على حقائق الكذب الرهيبة، ونتائجه المدمرة، فكم من مصائب كبرى، ونكبات عظمى، جرها الكذب على الناس ومازال ... فهل من متذكر، ومتعظ مدكر؟!
فليوقر كل نفسه، وينزه شخصيته، ويحفظ كرامته، ويخشى عاقبته، بامتناعه عن أذم الخصال وأرذلها... فقد عبر عنها الامام علي عليه السلام بقوله: «علة الكذب اقبح علة»، والامام الصادق عليه السلام بقوله: «لاداء أدوى من الكذب».
نعم يجوز الكذب - أيها الاخوة الاعزة- في حالات، بل يرجح على الصدق في بعض المواقف، متى؟ في مكيدة الحرب ضد أعداء الدين، وفي الاصلاح بين اثنين، ومع الزوجة في موارد تدفع المشاكل من خلال عدة لاتتم، يرضيها اذا نزعت في مطامع دنيوية، أو حالات غيرة غير طبيعية.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «كل الكذب يكتب على ابن آدم، الا رجل كذب بين رجلين يصلح بينهما»، وقال الامام الصادق عليه السلام: الكلام ثلاثة: «صدق، وكذب، واصلاح بين الناس... تسمع من الرجل كلاماً يبلغه فتخبث نفسه، فتلقاه فتقول: سمعت من فلان قال فيك من الخير كذا وكذا، خلاف ما سمعت منه».
كذا يجوز الكذب والانكار في مجال حفظ السر، وستر العيوب والفواحش وكتمانها، والاصلاح بين الضرات، والحفاظ على الأبرياء والمظلومين من شرور الظلمة، ودرء النميمة والضغينة... وكل ذلك في حدود وشروط خاصة، تحتاج في بعض الموارد الى استعمال التورية والكناية، وحتى القسم لحفظ النفوس من المخاطر الكبيرة كالهتك والقتل. وفي عداها فالكذب ذو ابعاد مخربة، وربما أدى بصاحبه قبل أن يودي بالمكذوب عليهم!
الراوي: من ظريف ما يروى أن رجلاً كان يتسلى بالكذب، يتخذه وسيلةً للضحك على البسطاء... اسمه «سعيد»، ولكنه لم يحاول أن يسعد نفسه بالصدق والتقوى، وكان يشتغل في رعي أغنام له يسوقها كل يوم الى أطراف القرية التي يعيش فيها. فأراد يوماً ما أن يسخر من عقول أهل القرية ويضحك نفسه، فعمل مكيدة بأن نادى من أطراف الأكواخ من بعيد.
الراعي: يا أهل القرية، النجدة النجدة! أنقذوني من الذئب، إنه سيفترسني.
اهل القرية: ها هذا سعيد يطلب النجدة فلنسرع اليه هيا هيا يا رجال.
الراعي: ها ها ها ... اني أحببت ان امزح معكم، فلا ذئب هناك، ولا حاجة الى كل هذا الاستعداد للحرب (ها ها ها يضحك).
الراوي: فوبخه بعض ذويه، أن ذلك كذب لا مزاح، وانهم لا يثقون به بعد اليوم. ولكن ذلك لم ينفع مع سعيد، فحدث نفسه مرةً أخرى أن يكذب مازحاً، فصدقه بعضهم وهرع لنجدته، فرأوه يضحك ويقهقه انه اراد أن يمازحهم.
وفي يوم من الايام، فاجأ سعيداً ذئب شرس، فأخذه الهلع ونادى بأعلى صوته:
الراعي: يا اهل القرية! الذئب، الذئب...
رجل۱: لقد انقطعت انفاس سعيد ونداءاته، ولم يهرع اليه أحد.
رجل۲: انه يكذب، ولم يصدقه بعد أحد.
رجل۱: ولكنه لم يرجع بأغنامه.
رجل۲: ربما أكله ذئبه.
رجل۱: أو ربما أكله كذبه!