نص الحديث
قال الامام علي (عليه السَّلام) في وصف المتقين: "جرح طول الأسي قلوبهم، وطول البكاء عيونهم".
دلالة الحديث
يلاحظ: ان الامام علياً (عليه السَّلام)، قد استخدم عبارة (جرح) وهي عبارة حسية ترتبط بإدماء الجسم.. استخدم هذه العبارة الاستعارية ليخلع سمة حسية على طابع معنوي هو (القلب)، كما خلعها على طابع حسي ايضا ولكنه من خلال تبادل الحواس، اي: خلعها على العين: مع ملاحظة ان جرح العين يشكل بدوره (انزياحاً) او (عدولاً) من اللغة الحرفية الى اللغة التخيلية،... وبكلمة اكثر وضوحاً: ان الامام (عليه السَّلام) استخدم اكثر من اداة بلاغية في تقريره لحقيقة الأتقياء، فهو _من جانب_ قد استخدم الاستعارة، ومن جانب آخر استخدم (تبادل الحواس)،... ولعل قارئ النص يسأل عن النكتة الكامنة وراء (تبادل الحواس)، وهو ما نبدأ بتوضيحه الآن.
واضح، ان للحواس خصوصية تنحصر بها، فالصوت يرتبط بحاسة السمع، والرائحة ترتبط بحاسة (الشم)، واللون يرتبط بحاسة البصر، وهكذا... لكن من الزاوية النفسية (وحتى من الزاوية الحيوية) من الممكن ان تتبادل الحواس فيما بينها: كما لو قلنا مثلاً (ما اعطر هذا الصوت) حيث بادلنا سمة (الشمّ) بسمة (السمع)،... وعندئذ نتساءل: ما هي النكات الكامنة وراء هذا التبادل بين الحواس؟
الجواب: بما ان اعضاء الجسم يرتبط احدها مع الآخر، ومن ثم فان (المخ) هو المتكفّل بتنظيم ذلك، حينئذ فان الحالة النفسية للشخص من الممكن ان تتسامي وتتصاعد باستجابتها الى ما يمسح الفروق بين الحواس، فكانه السميع، صوت العطر ويشّم رائحه النغم، وهكذا... وفي ضوء هذه الحقائق نتقدم الى مقولة الامام (عليه السَّلام) في ذهابه الى ان (الأسى) و (البكاء) تسبّبا في عملية (الجرح) للقلوب وللعيون... فماذا نستلهم من ذلك؟
ان (الجرح) اساساً يرتبط بما هو جسمي كما اشرنا، بيد ان تبادل اجزاء الجسم عضوياً لا يختلف عن تبادل حواسه، وحينئذ يمكنك ان تبادل بين جرح الجسم وبين أسى القلب، فخلع على ما هو معنوي (الأسى) على ما هو (مادي): القلب، وكذلك بين ما هو مادي على ما هو ماديّ ايضاً وهي: البكاء، والدمع، ولكن النكتة في الحالتين تتمثل في تبادل السمات بنحو يجعلك متعمقاً و متغلغلاً الى اطرف وامنع الدلالات.
وهذا ما نلحظ في المقولة المتقدمة... كيف ذلك؟
بلاغة الحديث
ان القلب هو مركز المعنويات فمثلاً في احد مصاديق الحالة للمتيقن وهو ( الأسى) اي: بما يشعرونه من الحزن تبعاً للحديث الذاهب الى المؤمن حزين قلبه لأحساسه بالتقصير في التعامل مع الله تعالى، ولذلك فأن الحزن المذكور يجرح قلوب المتقين: كالسكين في جسد الشخص...
واما (طول البكاء) يتضمن: التعبير عن الحزن المذكور، اي بما انهم يستشعرون (الحزن): فهذا يقتادهم الى البكاء، والبكاء هنا طويل يتناسب مع طول الحزن، ولذلك يقوم بنفس العملية السابقة، وهي تجريح العين..
اذن: جرح العين نتيجة لجرح القلب، ومن ثم نتبين مدى عمق هذه الدلالة، سائلين الله تعالى ان يجعلنا كذلك، وان يوفقنا الى الطاعة، انه سميع مجيب.