السلام عليكم مستمعينا الأفاضل، أهلاً بكم في ثانية حلقات هذا البرنامج نخصصها لخلق العفو الألهي ومصاديقه تخلق أولياء الله عليهم السلام به مستعينين بذلك للتأسي بهم عليهم السلام من أجل العمل بالوصية المحمدية الشهيرة الواردة في الحديث النبوي الشهير: (تخلقوا بأخلاق الله).
والعفو هو ايها الأحبة من أظهر أخلاق الله جل جلاله، وقد تحدثنا في الحلقة السابقة عنه ولكن في مصداقه الذي يشمل العفو عن المذنبين الذين يطلبون العفو والتائبين؛ والنادمين حقاً عما جنوه. وقد نقلنا رواية مؤثرة يعلمنا فيها مولانا الإمام زين العابدين عليه السلام كيف نتخلق بهذا النمط من خلق العفو. أما في هذه الحلقة، فنتناول نمطاً آخر من العفو يشمل حتى أعداء الله ويعبّر عن سعة العفو الإلهي وعن نزاهته عزوجل عن جميع أشكال الإنتقام. وهذه الثمرة المهمة هي التي ينميها في وجود الإنسان المؤمن تخلقه بهذا النمط من العفو الإلهي. بمعنى أن العفو عمن لا يرجى منه أن يرعوي عن اسائته عامل مهم في تزكية النفس وتطهيرها من أي شكل من أشكال الحقد وحب الإنتقام المتأصل غريزياً في النفس الإنسانية؛ وبالتالي كبح جماحها الأرضي. وتطهير النفس من هذه النزعة الإنتقامية يرفعها بالتالي الى مراتب الروحانيين التى ترفع الإنسان الى مراتب الكمال السامية. مستمعينا الأفاضل، وقد إخترنا لهذا النمط من العفو الكريم ثلاثة نماذج تنير لنا سبل التخلق به وقد إنتخبناها من سيرة مولانا ومولى الموحدين أميرالمؤمنين، الأول ما رواه المؤرخون أنه عليه السلام قال لما ضربه ابن ملجم المرادي لعنه الله: "وصيتي لكم أن لا تشركوا بالله شيئا، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا تضيعوا سنته، أقيموا هذين العمودين، وأوقدوا هذين المصباحين، أنا بالأمس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم، إن أبق فأنا ولي دمي، وإن أفن فالفناء ميعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة، فاعفوا الا تحبون أن يغفر الله لكم؟ والله، ما فجأني من الموت وارد كرهته، ولا طالع أنكرته، وما كنت إلا كقارب ورد، وطالب وجد، وما عند الله خير للأبرار" .
والنموذج الثاني يشتمل على شهادة واقرار بعظمة هذا الخلق الكريم من كاتب مسيحي هو مؤلف كتاب (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) الأستاذ جورج جرداق حيث قال في تصوير أجواء الوصية العلوية: "كل ما في الطبيعة كان يعصف بالثورة، إلا وجه ابن أبي طالب فقد انبسط لا يحدث بانتقام، ولا يشير إلى اشتباك، فإن العواد وقفوا بباب الأمام وكلهم جازع متألم باك يدعو إلى الله أن يرحم أمير المؤمنين فيشفيه ويشفي به آلام الناس، وكانوا قد شدوا على ابن ملجم فأخذوه، فلما أدخلوه عليه قال: أطيبوا طعامه وألينوا فراشه" .
أما النموذج الثالث فننقله عن كتاب وقعة الجمل وفيه قال الشيخ المفيد رحمه الله، عن هاشم بن مساحق القرشي قال: حدثنا أبي لما انهزم الناس يوم الجمل اجتمع معه طائفة من قريش فيهم مروان بن الحكم، فقال بعضهم لبعض: والله، ظلمنا هذا الرجل يعنون أمير المؤمنين عليه السلام، ونكثنا بيعته من غير حدث. والله، لقد ظهر علينا فما رأينا قط أكرم سيرة منه ولا أحسن عفوا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، تعالوا حتى ندخل عليه ونعتذر إليه فيما صنعناه. فقلنا له: كن يا أمير المؤمنين، كالعبد الصالح يوسف إذ قال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فقال عليه السلام: "لا تثريب عليكم اليوم، وإن فيكم رجلا لو بايعني بيده لنكث" .
نعم ايها الأعزاء ونلاحظ هنا أن أميرالمؤمنين عليه السلام قد عفا عن مروان بن الحكم وهو يعلم بأنه سينكث بيعته مرةً أخرى ويلتحق بمعاوية، ونبقى مع رواية الشيخ المفيد حيث نقل رحمه الله عن الراوي قوله عن واقعة الجمل نفسها: ورأيت يومئذ سعيد وأبان ابنا عثمان فجئ بهما إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، فلما وقفا بين يديه قال بعض من حضر: اقتلهما يا أمير المؤمنين، فقال: "بئس ما قلتم، آمنت الناس كلهم وأقتل هذين؟" ثم أقبل عليهما، وقال لهما: "ارجعا عن غيكما، وانزعا وانطلقا حيث شئتما وأحببتما، فأقيما عندي حتى أصل أرحامكما، فقالا: يا أمير المؤمنين! نحن نبايع، فبايعا وانصرفا" .
نسأل الله تعالى لنا ولكم ايها الأخوة والأخوات أن يعيننا على التطهر من نزعة الإنتقام وظلمات الغضب للنفس والتحلي بخلق العفو الإلهي بجميع مصاديقه تأسياً بأوليائه الصالحين محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين. وبهذا تنتهي أعزاءنا مستمعي إذاعة طهران ثانية حلقات برنامج من أخلاق الله، شكراً لكم ودمتم في رعاية الله.