شكى لي اخي يوماً من تغييرات غير محبذة طرأت على سلوك ولده في الآونة الاخيرة قال لا ادري ما الذي اصاب هذا الولد ان وضعه يقلقني كثيراً ارجوك ان تفعل شيئاً انت عمه وهو يحبك كثيراً ويحترم كلمتك، تفجرت في كلماته روح الشفقة الابوية فطفحت نبرة الالم على كل حرف من كلامه سعيت اولاً ان اخفف عنه بعض ما يعانيه وقبل ان اعرف مايشكو منه فقلت له: هون عليك يا اخي فسعيد شاب وطريق الشباب تعترضه احياناً بعض النزوات والاخطاء وسرعان ما تزول وبعضها بوتقة تنصهر فيها الشوائب وتتميز فيها الخصال الحسنة، قاطع اخي كلامي بكلمات تحمل نفس النبرة الحزينة القلقة ليقول، لا، لا، الامر ليس في الامر نزوة شباب منذ اسابيع وسلوك سعيد قد تغير بالكامل غادرت محياه طراوة الشباب وعلته ملامح الهزال اصبح دائم الميل الى العزلة لا يكاد يتحدث مع احد، اهتمامه بالدراسة ضعف للغاية وكأن رغبته في الحياة قد انعدمت اخشى ان يكون قد اصابه مرض خطير، طلبت منه مراراً ان نذهب معاً للطبيب فابى ولم ارغب ان اجبره على ذلك ارجوك ان تقنعه انت وتذهب به الى الطبيب لنعرف علته، عندما كلمته لم يبق لدي شك في ان مرضه ليس بدنياً وان الذبول الذي غلفه مظهر لشىء آخر، ما وجدته فيه ليس انعدام الرغبة في الحياة بل انعدام الرغبة في الدنيا والزهد فيها وهذه ظاهرة ايجابية ولكنها شيء، وما وقع فيه هذا الحبيب شيء آخر، لم اجد خللاً فيما قاله لي سعيد وهو يجيب عن سؤالي بشان ما ألم به قال: ياعم لقد وجدت اننا لم نخلق لهذه الحياة الدنيا واعمارها بل خلقنا للاخرة واعمار منازلها الخالدة ففيها الحياة الحقة والدنيا هي مزرعة الآخرة فبها تعمر دارنا الخالدة ووسيلتنا لذلك العبادة ولاجلها خلقنا، هذا ما قاله لي سعيد فهل تجدون خللاً في هذه الفكرة الالهية الاصيلة التي دارت حولها مواعظ القران الكريم ومواعظ الانبياء والاولياء عليهم السلام اذن فأين الخلل؟ ايدت قوله ودعوته ان يشكر الله على رسوخ هذه الحقيقة في قلبه وقلت له ان هذه الحقيقة تدفع للعمل الصالح والعبادة التي تبني بها الغد الاخروي المشرق فما بالك تذكرها سبباً لما تقاسيه، هذا السؤال فتح الباب لمعرفة الشيء الاخر الذي كمن وراء ما كان يعانيه ابن اخي سبب ذبوله وخفوت رغبته في الحياة فقد اتضح الامر من جوابه عليه وبكلمات لا تقل لوعة عن كلمات ابيه التي عرض بها مشكلة ابنه قال سعيد: اني ياعم اجد في هذه الالتزامات الاجتماعية والدراسية والاسرية عقبة كؤود تصدني عن العبادة وهي وسيلتي لبناء الغد الاخروي المشرق اريد ان اتعبد لله بالمزيد من المستحب من الصوم والصلاة والتهجد في الاسحار فاجد في نفسي حيناً بعض الاقبال وفي احيان اخرى نفرة وادباراً ولشد ما يؤذيني هذا الادبار.
تابع الفتى سعيد حديثه عن معاناته واسهب في توضيح ما يعانيه في تطويع نفسه للاقبال على العبادة وافصح لي ان اشد ما يؤذيه هو انه بدأ يفقد اللذة التي كان يستشعرها وهو يؤدي الصلاة الواجبة والصوم الواجب بل والقليل من النوافل التي كان يؤديها سابقاً لقد صارحني هذا الفتى قائلاً: ياعم ان ما يؤذيني هو ان هذه العبادات اصبحت ثقيلة عليَّ اعاني من ادائها رغم انني احبها اقسم بالله اني احب العبادة ولكني لا اعلم لماذا اصبحت هذه الحبيبة ثقيلة على قلبي!
احسست بالصعوبة التي كان يعانيها وهو يصارحني بذلك ولكن كأس صبره كان قد طفح كنت استذكر اثناء حديثه طائفة من الاحاديث الشريفة التي تقدم العلاج لما كان يعانيه هذا الفتى فلم اجد صعوبة في معالجته اذ كانت مهمتي هي ان انقل له ما يحتاجه من هذه الوصفات العلاجية لاطباء القلوب والارواح عليهم السلام اخذت اتلوها عليه بهدوء.
يا ولدي ان الدين متين فاوغلوا فيه برفق هكذا علمنا اهل البيت عليهم السلام فلا تحمل نفسك من العبادات ما يجعل نفسك تنفر منها رغبتها في العبادة ثم اقبل عليها وبالمقدار الذي لاتستثقله، وكان فيما قلته له، ان كثير من هذه المشاغل مما لا تقوم به الحياة الدنيا الا به ولذلك امر الله بالسعي فيها ثم من قال لك ان العبادة تنحصر في الصلاة والصوم اذا كانت نيتك من الاقبال على الدراسة الهية كأن يكون قصدك خدمة خلق الله بالتخصص العلمي الذي تحصل عليه اصبحت دراستك عبادة ألم تهدنا احاديث اهل البيت عليهم السلام ان اصلاح ذات البين او السعي في قضاء حوائج خلق الله او التفكر في امر الله او اغاثة الملهوفين يفضل كل منها على الكثير من نوافل الصلاة والصيام وتلوت عليه ماحفظت من كلام الهداة عليهم السلام بشأن ماذكرت له وكان يصغي باقبال لهذه الاحاديث الشريفة وعلامات الاطمئنان والثقة والامل المشرق تعود الى محياه.
لم ينته بعد حديث صاحبنا فقد بقيت قصة مشكلته مع اخيه والد سعيد ولكن حديثه عنها طويل نوكله الى الحلقة اللاحقة باذن الله.
*******