وكانت الدول الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا وروسيا وفرنسا تحاول بسط سيطرتها الكاملة على ايران وذلك لنهب ثرواتها ومصادرها. وفي هذه المسيرة، كانت الحكومات القاجارية والبهلوية تساعد القوى الاجنبية باشكال وصور شتى تتمثل في عقد معاهدات واتفاقيات معها ومنحها امتيازات سياسية وتجارية واسعة. فأحدثت هذه المعاهدات والإملاءات الاستعمارية موجات عارمة من الغضب والاستنكار في الشارع الايراني المسلم ضد الاستعمار وتغلغله؛ تبلورت على إثرها حركات ونهضات تدعو للوقوف بوجه هؤلاء المستعمرين والحكومات المستبدة المتواطئة معهم، ومن جملتها نهضة الكولونيل محمد تقي بسيان في خراسان شمال شرق ايران، ونهضة الشيخ محمد خياباني في مدينة تبريز شمال غرب البلاد، ونهضة ميرزا كوجك خان جنكلي في جيلان شمال ايران.
امّا الاخير وهو يونس الذي عرف فيما بعد بميرزا كوجك خان جنكلي فولد عام ۱۸۷۸م في حي "استاد سرا" بمدينة رشت مركز محافظة جيلان. فنشأ في اسرة مسلمة صالحة وتعمقت هذه النشأة عندما بدأ يونس بدراسة العلوم الدينية في مدرسة "حاجي حسن" برشت ومدرسة "محمودية" بطهران، حيث تتلمذ على يد كبار علماء عصره حتى وصل الى درجة عالية في العلوم الدينية تمكنه من أن يصبح امام جماعة أو مجتهداً بارعاً، غير أن الاحداث والهجمات والتدخلات الاستعمارية في ايران، جعلته يغير مسيرة حياته بترك الدراسة الدينية والتوجه لحمل البندقية ولبس الزي العسكري في ساحات الجهاد ضد المستعمر الاجنبي.
كان ميرزا كوجك خان كغيره من الشباب الايرانيين الأحرار تؤلمه رياح التيارات السياسية التي أخذت تهبّ على كل شبر من اراضي ايران وتحمل معها سموم التغريب وتنذر بالخطر الثقافي العظيم فضلاً عما ينطوي عليه المناخ السياسي آنذاك من تمهيد الارضية للهيمنة الاستعمارية في شتى المجالات.
وفي غمرة هذه الهجمة الثقافية والسياسية، وجد ميرزا كوجك خان انه لابد له من التصدي لهذا الخطر الداهم الزاحف، فراح يساهم في انتشار الوعي الاسلامي بين صفوف الشباب عبر المحاضرات التي كان يلقيها لهم.
واذا كانت هناك محطة سياسية قد تركت أثرها الكبير في نفس ميرزا كوجك خان، فهي الثورة الدستورية والتي أجبرت الملك القاجاري مظفرالدين شاه على قبول الدستور بضغط المعارضة الشعبية الدينية، الا أن هذه الفترة الزمنية للدستور لم تدم طويلاً فقد توفي مظفر الدين شاه سنة ۱۹۰۷ وخلفه محمد علي شاه الذي دخل معركة مكشوفة مع المعارضة الشعبية.
وفي مثل هذه الظروف الحساسة، انخرط ميرزا كوجك خان مع الثوار والمطالبين بالحكومة الدستورية الذين كانوا يعارضون الاستبداد والاستعمار، وتوجه معهم الى طهران لإسقاط حكومة محمد علي شاه. فاشتبك الثوار والجماهير مع القوات الحكومية انهزم فيها الملك القاجاري وتنازل عن العرش ومن ثم هروبه الى روسيا في تموز – يوليو عام ۱۹۱۱.
وفي ۲٤ من كانون الاول- ديسمبر من السنة نفسها، دخلت جيوش القيصر الروسي طهران وقصفت البرلمان الايراني بالمدفعية وعطلته وأرجعت الملك المخلوع بدعم مباشر منها، وقتل في هذه المواجهات العنيفة العديد من أبناء الشعب الايراني كما أصيب المئات منهم بحروح وكان ميرزا كوجك خان واحداً من الجرحى.
وبعد أن احتل الجيش الروسي المناطق الشمالية في ايران، توجه ميرزا كوجك خان الى غابات جيلان وأسس فيها تنظيماً مسلحاً باسم (قوات الغابة) للتصدي للقوات الاجنبية الغازية، فأعلنت هذه القوات بقيادة ميرزا كوجك خان أنها تعمل لاستقلال ايران وسيادتها الكاملة والوقوف بوجه كافة القوى الاجنبية الغازية وطردها من البلاد ومكافحة الاستبداد والفساد الحكومي في ايران.
توسع نطاق قوات الغابة وازداد شيئاً فشيئاً. فقام ميرزا وانصاره بتغييرات تنظيمية وقيادية في قوات الغابة، وذلك من خلال وضع استراتيجيات خاصة لها سميت فيما بعد بنهضة الغابة.
واثر سقوط الحكومة القيصرية وقيام الحكومة البلشفية في روسيا عام ۱۹۱۷، استدعت الحكومة الجديدة بموسكو قواتها الموجودة في ايران للعودة الى بلادها، وفي طريق عودتها قامت بنهب اموال الناس وانتهاك الأعراض واضرام النيران في البيوت، فما كان من ميرزا كوجك خان إلا أن وقف بوجه هذه القوات وتصدى لها عند الحدود الايرانية الروسية واشتبك معها فأنزل بها خسائر فادحة، حيث قتل العشرات من القوات الروسية الغازية، ما أرغمها على التفاوض معه للتخلص من المأزق الذي وقعت فيه. فاسفرت المفاوضات عن موافقة الروس على تعويض الخسائر الناشئة من اعتدائهم على الناس العزل وعدم التعرض لأي مواطن ايراني عند الانسحاب من الاراضي الايرانية.
من جهتها، حاولت قوات الاستعمار البريطاني في نفس العام أي عام ۱۹۱۷م بسط نفوذها في كل أرجاء ايران وكانت بصدد احتلال منطقة "القوقاز" ومدينة باكو التي كانت تعدّ مصدراً نفطياً هائلاً، بيد أن البريطانيين كانوا يرون في نهضة الغابة بشمال ايران مانعاً أساسياً بوجه مطامعهم الاستعمارية، فقررت الحكومة البريطانية التفاوض مع قائدها ميرزا كوجك خان فحاولت إغراءه مقابل السماح بمرورهم لكنه رفض، فوقعت معركة دامية في منطقة "منجيل" بين قوات ميرزا من جانب والقوات البريطانية والقوات الروسية المتحالفة معها من جانب آخر.
استخدمت القوات الروسية في هذه المعركة، المدفعية الثقيلة باسناد جوي شديد من قبل الطائرات البريطانية حتى يفتحوا طريق "منجيل- ميناء أنزلي" للتوجه نحو القوقاز، فتكبدت قوات نهضة الغابة خسائر جسيمة خلال هذه المواجهات لأن الهجوم جاء مفاجئاً وكان العدو متفوقاً في مختلف النواحي.
هذا ولم تكتف القوات الروسية والبريطانية بالاشتباكات المسلحة فحسب بل قامت باثارة الفتن وبث الفرقة والخلافات داخل صفوف قوات ميرزا ولكن ورغم ذلك، ظل ميرزا كوجك خان وانصاره يواصلون جهادهم المرير ضد الاستعمار والحكومة العميلة له، وفي عام ۱۹۱۹ شنت القوات الحكومية وبدعم من الانجليز هجوماً مكثفاً على معاقل ثوار الغابة والذي أسفر عن قتل وجرح عدد كبير منهم، كما تم الاعلان عن الاحكام العرفية في مدينة رشت وبعض مدن جيلان واغلقت جميع الطرق بوجه نشاطات الثوار، غير أن ميرزا كوجك خان الذي لم يبق معه سوى ثمانية اشخاص، لم يستسلم بل قام باعادة تنظيم قواته وواصل النضال لمواجهة الحكومة العميلة لبريطانيا.
هذا وأخذ الشيوعيون الروس يلعبون دوراً بالغاً في إفشال النهضة التي ضعفت بفعل الضربات التي تلقتها من الشيوعيين من جهة والهجمات التي كانت تشنها القوات الحكومية المدعومة من المستعمر البريطاني من جهة أخرى.
ولكن ميرزا بالرغم من ذلك وحتى بعد استشهاد كثير من أنصاره، بقي يقاوم العدو فقرر أن يتوجه الى منطقة "خلخال" بمدينة اردبيل المجاورة لجيلان، إلا أنه قضى شهيداً في الطريق في اليوم الاول من كانون الاول – ديسمبر لعام ۱۹۲۱، وذلك جراء تعرضه للبرد القارس في المنطقة، وظل جسده بين الثلوج لعدة ايام حتى عثر عليه عددٌ من عملاء الحكومة فقاموا بقطع رأسه وسلموه الى رضا خان في طهران.
تقع مقبرة ميرزا كوجك خان في حي "سليمان داراب" بمدينة رشت، حيث يقصدها الزوار والسياح وتقام هناك سنوياً مراسم خاصة في ذكرى استشهاده.
وظل البطل وثورة الغابة خالدين في ذاكرة التاريخ.