البث المباشر

مدينة سامرّاء

الثلاثاء 29 يونيو 2021 - 16:46 بتوقيت طهران
مدينة سامرّاء

سامرّاء اسم آراميّ، وهو في أصله مقصور كسائر الأسماء الآرامية بالعراق مثل «كربلا وعكبرا وحَرَوْرا وباعقوبا وبَتمَّار وتامَرّا».

وقد مَدَّ العرب كثيراً من هذه الأسماء الآرامية المقصورة في استعمالهم إيّاها، وخصوصاً ذكرها في الشعر إلحاقاً لها بالأسماء العربيّة أو توهماً منهم أنّها عربيّة تجمع بين المدّ والقصر، مثل كثير من الأسماء التي انضمت عليها اللغة العربيّة ذات الأصول العربية.
رأيت «سامرّا» مكتوبة في نسخة تاريخ الطبري المطبوعة بمصر، أعني بالألف المقصورة وسيأتي النصّ وهكذا.
ولم يذكر لسترنج المستشرق المشهور العالم المحقق معنى «سامرّا» الآرامية، ولا مُترجماً كتابه إلى العربية في الترجمة، وإذ كانت الآرامية فرعاً من فروع اللغة السامية الأمّ، وكان الغالب على «سينها» أن تبدل «شيناً» في العربية جاز أن يكون بين مادة «شمر» العربيّة و«سامرا» الآرامية صلة لفظية وصلة معنوية.
قال الأصمعي: «التشمير: الإرسال من قولهم: شمّرتُ السفينة: أرسلتها، وشمّرت السهم: أرسلته».
وقال ابن سيدة: «شمّر الشيء: أرسله، وخصّ ابن الأعرابي به السفينة والسهم».
وقال أبو عبيدة في التسمير (بالسين) الوارد في الحديث: «وسمعت الأصمعي يقول: أعرفه بالشين وهو الارسال، قال: وأراه من قول الناس: شمّرت السفينة: أرسلتها، فحُوّلت الشين إلى السين».
فغير بعيد إن كانت «سامرا» عند الآراميين فرصة كبيرة لإرسال السفن في دجلة أو دار صناعة لها، ولدجلة عندها خليج لا يزال على حاله القديمة يتبطّح فيه الماء عند الزيادة. مع هذا فتفسيري هذا لا يخرج عن عداد الحُسبان؛ وذلك لعُسر تفسير الأسماء الواغلة في قديم الزمان.
وقال الأب أنستاس ماري الكرملّي: «لا جَرَم أن الذي أسس سامرّا وبناها هو الخليفة العباسي المعتصم بالله.. أما اسم المدينة فليس من وضع المعتصم نفسه بل هو قديم في التاريخ، فقد ذكره المؤرخ الروماني أميانس مرقلينس الشهير الذي ولد سنة (۳۲۰) وتوفي سنة (۳۹۰) بصورة (سومرا) Sumera. ونوّه به زوسيمس المؤرخ اليوناني من أبناء المائة الخامسة للمسيح صاحب التاريخ الروماني بصورة (سوما) Souma ويظن أهل النقد من أبناء هذا العصر أنّه سقط من آخر الاسم حرفان والأصل (سومرا: Soumara) وورد في مصنفات السريان (شومرا) بالشين المنقوطة، وعرّفها ابن العبري باسم السامرة (كذا) وهذه عبارته:
«فلما جدّوا (أي الناس) في زمن بناء برج بابل في ذلك بأرض شنعار وهي السامرة...». راجع كتابه؛ مختصر الدول ص ۱۹ من طبعة اليسوعيّين في بيروت.

والغلط ظاهر إذ ليست السامرة في بلادنا بل في فلسطين، لكنّ مجانسة اللفظ الواحد للآخر خدعته فقال ما قال... أما الكلمة فليست بعربية صرفة وإن ذهب إلى هذا الرأي كثيرون من المؤرخين والكتبة واللغويين، وذلك لعتقها كما أوضحناه وهي عندنا من أصل سامي قديم ويختلف معناها باختلاف تقدير اللفظة المصحفة عنه، فإذا قلنا: إن أصلها (شامريا) فمعناها الله يحرس المدينة أو بعبارة أخرى (المحروسة)، وإن قدّرنا أصلها (شامورا) بإمالة الألف الأخيرة فمعناها الحرس أي منزل الحرس أو مواطن الحفظة بتقدير حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه، وهو كثير الورود في جميع اللغات السامية. وعليه نعتبر قولهم إن (سامرا) تخفيف (سُرَّ من رأى) أو (ساء من رأى) من قبيل الوضع، ولهذا لم يقبل أحد من المستشرقين هذا الرأي وعدّوه في منتهى السخف.
وزعم الأستاذ هرزفيلد أن اسم هذه البلدة قد جاء في الكتابات الآشورية بصورة (سرمارتا Su - Mar - Ta) وأنها كان لها في أيّام الفرس شأن كبير في محارباتهم الرومان.
أما مدّ «سامرا» وجعلها سامراء فهو محدث أحدثه العرب إجراءاً منهم لهذا الاسم مجرى الأسماء العربية كما ذُكر انفاً، وكانوا يفعلونه حتّى مع اعترافهم بأن الاسم غير عربيّ.
قال ياقوت الحموي: عُكبرا بضمّ أوله وسكون ثانيه وفتح الباء الموحدة، وقد يمدّ ويقصر، والظاهر أنّه ليس بعربيّ...
وقال حمزة الأصبهاني: بزرج سابور معرب وزرك شافور وهي المسماة بالسريانية عكبرا.
وللأستاذ كاظم الدجيلي مقالة جيّدة بعنوان: «أثار سامراء الخالية وسامراء الحالية» قال فيها: أما اسمها فقد اختلفت الروايات فيه وفي معانيها (كذا) وكلها لا نصيب لها من الحقيقة، وأصدق لغة رويت في اسمها هو (كذا) سامراء بفتح السين بعدها ألف يليها ميم مفتوحة وبجانبها راء مثقلة مفتوحة ثمّ ألف ممدودة وفي الآخر همزة. وأما قولهم: إن الرواية الصحيحة هي (سُرَّ مَن رأى) أو (سام راه) فهذه وغيرها من مخترعات المخيلة، ومن التآويل التي أنتجتها قرائح بعضهم إجابة للعقل الذي يحب الوقوف على أسرار الكون والاكتفاء بما يرضيه. ولو فكروا قليلاً لأقرّوا أن تأويلهم بعيد لقدم ورود الاسم، ولعله من وضع البابليين أو الآشوريين أو الكلدانيين أو غيرهم من الأمم الخالية، فكيف يُطلَب لها معنى في اللغة العربية ؟!
قلت: قد ذُكر رُجحان المقصور «سامرا» على الممدود «سامراء» في كلام سابق لهذا، واستبانت أسباب الرجحان، ويضاف هنا أن مدّ الأسماء الأعلام غير مألوف في غير اللغة العربية من اللغات السامية، والغالب عليها فيها القصر، وإذ كانت اللغة البابليّة واللغة الآشورية واللغة الكلدانيّة مع تشابههنَّ من اللغات السامية كاللغة العبريّة فلا بأس في البحث عن معنى «سامرا» في اللغة العربيّة مع مُراعاة أطوار الأبدال والأوزان في اللغات المذكورة وهي في الصعوبة بمكان، بحيث لا يعلمها إلاّ متقن تلك اللغات ودارس علم الموازنة بينها. ومع ذلك فلا حرج في إقامة باعث على التفكير في معنى الاسم، أو إحداث فكرة تدور حولها، والبحث عن معاني الأعلام المدنية هو مما اعتاده المؤرخون المحدثون والآثاريون العصريون، لأنّه ذو فائدة لعلم التاريخ والحضارة البشرية وعلم اللغات، اعتاده أيضاً البلدانيون القُدامى كما ترى في معجم البلدان لياقوت الحموي، وإنّما الذي يؤخذ عليهم أنّهم كانوا يحاولون رجع معظم الأسماء الأعلام وعامّتها إلى اللغة العربيّة وهو الذي أنكره محقاً الكاتب الفاضل، مع أن البلاد التي أنشئت فيها تلك المدن والبلدان والقرى والنواحي المعمورة لم تكن قديماً من البلاد العربيّة، أما مواضع جزيرة العرب فكان لهم كلّ الحقّ في البحث عن معاني أسمائها لأن واضعيها كانوا عرباً.
وكان من الغلط المبين قول أبي محمد الحريري:
ويقولون: للبلدة التي استحدثها المعتصم بالله (سامرا) فيوهَمُون فيه كما وَهِم البحتري فيها إذ قال في صَلب بابَك:

أخليتَ منه البذّ وهو قرارُه
ونصبتَهُ علَماً بـسامـرّاءِ

والصواب أن يقال فيها (سُرِّ من رأى) على ما نُطق بها في الأصل؛ لأن المسمّى بالجملة يُحكى على صيغته الأصليّة كما يقال: جاءَ تأبّط شراً.. وحكاية المسمّى بالجملة من مقاييس أصولهم وأوضاعهم، فلهذا وجب أن يُنطق باسم البلدة المشار عليها على صيغتها الأصلية من غير تحريف فيها ولا تغيير لها، وذاك أن المعتصم بالله حين شرع في إنشائها ثقُل ذلك على عسكره فلما انتقل بهم إليها سُرَّ كل منهم برؤيتها فقيل فيها سُرَّ من رأى، ولزمها هذا الاسم وعليه قول دِعبِل في ذمّها:

بـغداد دار الملوك كـانت
حتّى دهاها الذي دهـاهـا
ما سُرَّ من را بسُرَّ من را
بل هي بُؤسى لمن رآهـا

وعليه أيضاً قول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في صفة الشعري:

أقـول لـمـا هـاج قلبي ذكرى
واعتَرَضَت وسطَ السماء الشِّعرى
كـأنّـها يـاقـوتـةٌ في مِـدرى
مـا أطـولَ الليـل بسُرَّ مَن را!

فنطق الشاعران باسمها على وضعه وسابق صيغته وإن كان قد حذفا همزة «رأى» لإقامة الوزن وتصحيح النظم.
وليس ما قاله الحريري بالمروي الصحيح وإنّما الصحيح أنّ المعتصم بالله سأل عن ذلك الموضع فقيل له: اسمه سامرّا، فأراد التفاؤل على عادة العرب، فقال: نسمّيها سُرَّ من رأى.
قال أبو الثناء محمود الآلوسي معقّباً: وما أنكر الحريري غير منكر، قال ابن برّي عن ثعلب وابن الأعرابي: وأهل الأثر يقولون، كما قال أيضاً: اسمها القديم ساميرا، سُمّيت بساميرا ابن نوح عليه السّلام لأنّه أقطعه إياها، فكره المعتصم ذلك فغيّرها، والأقرب أن يكون التغيير إلى سامرا. وحكى بعض أهل اللغة أنّها سميت (ساء من رأى) فحذفت همزة ساء وهمزة رأى لطول الكلمة.
وقيل سامرا حكى بعضٌ فيها ست لغات: سُر من رأى، ببناء الفعل للمفعول، و(سرَّ من رأى) ببنائه للفاعل أو (ساء من رأى) و(سامرا) بالقصر و(سامراء) بالمدّ، و(ساميرا). وفي القاموس (سر من رأى) بضم السين والراء وبفتحهما وبفتح الأول وضم الثاني وسامراء، ومدّه البحتري بالشعر وكلاهما لحن، وساء من رأى ، وسُرّاء ممدودة مشدودة مضمومة، والنسبة سُرَّمري وسامرّي وسرّي. ونقل بعد ذلك من معجم البلدان لياقوت الحموي.
وأنا لم أنقل التعقيب على الحريري على أنّه خبر تاريخي صحيح بكماله، بل نقلته لإثبات أن من القدماء من قال بقدم الاسم «سامرا»، وإن كان في رأيهم أنّه «ساميرا» ففي اللغة يُبدل أحياناً أحد الضعفين ياءاً كما قالُوا «إيبالة» في الإبّالة وهي الحزمة من الحطب والحشيش، وقالوا أصل الدينار «دنّار» بدلالة جمعه على دنانير، وقالُوا باطراد في مصدر «فَعَّل يفعَّلُ» تفعيلاً، وكان القياس يوجب أن يقولُوا «تفعِعْلا» لأن في الفعل عيناً مضعفة، ينبغي ظهورها في المصدر كما تظهر في «تفعَّل تفعُّلا».
ويُعلم مما قدمتُ أنَّ جميع لغات «سامرا» التي نقلناها، تلك التي يقول فيها ياقوت «سُرَّ من رأى وسُرَّ من رَى وسُرَّ من راء وساءَ من رأى وسام راه الفارسيّ وسُرور مَن رأى وسُرَّاء» صح ما هي إلا تلعبات باللفظ وتخريجات منه للتفاؤل تارة وللتشاؤم مرة أخرى، إلا أنَّ تسمية المدينة بُسرَّ من رأى غلبت على جميع التسميات لأن المعتصم شاء ذلك، ثم ضعفت بمرور الزمان، فكان من الناس من يسميها «سامرّا» وكان منهم من يسمّيها «سُرّ مَن رأى» على اعتبار أنّه الاسم الصحيح وليس بذاك، كما بيناه هناك.
وسامرّا كثرت فيها الأساطير ككل مدينة عريقة في القدم، فقال حمزة الأصفهاني: كانت سامراء مدينة عتيقة من مدن الفرس تُحمَل إليها الأتاوة التي كانت موظفة لملك الفرس على ملك الروم، ودليل ذلك قائم في اسم المدينة لأن (سا) اسم الأتاوة، و(مرّة) اسم العدد، والمعنى أنّه مكان قبض عدد جزية الرؤوس.
فحمزة استنتج تاريخها من تحليل اسمها على الطريقة الفارسية؛ لأن اللغة الفارسية آرية أي تركيبية لا اشتقاقية كاللغات الساميّة، وهذا التحليل واهٍ، فإنّه يقال: ما الباعث على حمل الأتاوة إلى أهل هذه المدينة ولم تكن من مُدن الحدود بين المملكة الفارسيّة على اختلاف أطوارها والدولة الرومية على اختلاف فتوحاتها، لأنّ الدولة الرومية كانت في غرب المملكة الفارسية، فالأَولى أن يكون مكان القبض على الفرات لا على دجلة.
قال ياقوت: وقال الشعبي: وكان سام بن نوح له جمال ورُواء ومنظر، وكان يصيف بالقرية التي ابتناها نوح عند خروجه من السفينة ببازَبْدَى وسمّاها ثمانين، ويشتو بأرض جُوخا، وكان ممرّه من أرض جوخا إلى بازبدا على شاطئ دجلة من الجانب الشرقيّ، ويسمّى ذلك المكان الآن (سام راه) يعني طريق سام.
وقال إبراهيم الجنيدي: سمعتهم يقولون إن سامراء بناها سام بن نوح عليه السّلام ودعا أن لا يصيب أهلها سُوء.
فهذه أمثلة لما ابتُدع من الأهوال في تاريخ سامرا، وقد نسب بعضها إلى رجال ثقاة رغبة في ترويجها بين الناس، وهي طريقة مبتدعي الأساطير المألوفة عندهم المعروفة عند ذوي الأفكار الناقدة.
ومن الطريف ما ذكره ابن بشارٍ المقدسي قال: سامرا كانت مصراً عظيماً ومستقر الخلفاء في القديم، اختطها المعتصم وزاد فيها بعده المتوكل وصارت مرحلة، وكانت عجيبة حسنة حتّى سُميت سرور من رأى ثمّ اختُصرت فقيل سُرْمَرى... فلما خربت وصارت إلى ما ذكرنا. سُميت ساء من رأى ثمّ اختصرت فقيل سامرا.
وقال مؤرخ آخر: حُكي في بعض الكتب أن سُرّ من رأى كانت مدينة عظيمة عامرة كثيرة الأهل فأخربها الزمان حتّى بقيت خربة وبها دير عتيق، وكان سبب خرابها فيما حكي في الكتاب المذكور أن أعراب ربيعة وغيرهم كانوا يغيرون على أهلها فرحلوا عنها.

*******

المصدر: موقع http://www.imamreza.net.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة