البث المباشر

مصادر إلهام العارف الرومي في قصص المثنوي

الأحد 22 سبتمبر 2019 - 13:12 بتوقيت طهران
مصادر إلهام العارف الرومي في قصص المثنوي

اذاعة طهران - برنامج : عبارات و اشارات - فقرة : مصادر إلهام العارف الرومي في قصص المثنوي

 

ومن الممكن ان يستخلص من كل قصة مضمونا الفكري او الاخلاقي، واذ ذاك يتضح البناء الفكري للمثنوي، ذلك البناء الذي اراد الشاعر العارف جلال الدين الرومي ان يخفيه وراء هذه المجموعة من القصص، وبهذا عبر عنه تعبيراً رمزياً، وجعل عمله يدخل بجدارة واصالة ضمن نطاق الفن، الى جانب ما اسهم به من مضمون فكري واخلاقي نادر المثال.
لقد اوتي جلال الدين مقدرة رائعة في الاداء القصصي وكذلك في صياغة الحوار، وقد استعان بهذه القصص في تصوير افكاره وتقريبها الى مستمعيه، لكنه لم يترك في ذهن المستمع او القارئ اي شك في ان هذه القصص انما سبقت من اجل مضمونها الفكري او الاخلاقي.
ومن هنا لم يحرص الشاعر رغم مقدرته في الاداء القصصي على تماسك القصة ووحدتها، بل كثيراً ما كان يوقف سرد القصة ليعلق على احدى وقائعها من جديد فيستأنف رواية القصة، وربما توقف على النحو ذاته للمرة الثانية او الثالثة كلما شعر بالحاجة الى هذا التوقف للتعبير عن فكرة، او لتقرير معنى، كما لاحظنا ذلك في قصة (الارنب والاسد) التي اوردناها في الحلقة السابقة، حيث يمضي هذا الحوار بين الاسد والوحوش، ويمضي كل من المتناظرين في تأييد رأيه بالامثال والحكايات الى ان ترجح كفة السعي والجهد على التوكل والتراخي، حيث يعلن (المولوي) في ختام القصة على لسان الاسد قائلا:
(... فقال الاسد نعم! ولكن رب العباد وضع سُلّماً امام اقدامنا
فالواجب ان نصعد هذا السُلّم درجة درجة نحو القمة
واما القول بالجبر فانه طمع ساذج،
ان لك ساقين فكيف تجعل من نفسك انساناً اعرج؟
وان لك يدين فكيف تخفي اصابعك؟
فالسيد عندما يضع الفأس في يد عبده
يتضح مراده دون حاجة الى القول
فاذا توكلت على الله فتوكل عليه في عملك
ألقِ البذور ثم توكل على الخالق الجبار...).
(... انظروا الى الجهود التي بذلها الانبياء والمؤمنون
لقد بارك الله جهودهم وما لاقوه فيها من حرّ وبرد
فجاءت تدابيرهم في جملة الاحوال اللطيفة
وكل ما جاء من لطيف فهو لطيف
فاجتهد ايّها السيد ما استطعت في اتباع طريق الانبياء والاولياء...) .
ان اول المصادر التي استند اليها المولوي في استلهام قصصه هو لاشك القرآن الكريم، وقصص الانبياء، علماً انه لايتخذ من احد الانبياء موضوعاً لاحدى قصصه وانما يقتبس هذا الموقف او ذاك من حياته، ثم يصوغه في صور قصصية، ويستخرج بعد ذلك من الموقف ما شاء من فلسفة اخلاقية.
فاختيار الموقف يبنى قبل كل شيء على صلاحيته لا يضاح جانب من تفكير الشاعر، وقد يرد ذكر احد الانبياء في مواضع متفرقة، وفي كل مرة يقص الشاعر حكاية مختلفة عنه، فاستخدام الشاعر لقصص الانبياء يسير على النهج الذي جاء في القرآن الكريم من ورود قصص الانبياء في مواضع مختلفة من الكتاب الكريم.
وبعض هذه القصص يتعلق بطرف من سير كبار الصحابة، او الصوفية او الزهاد، فقد كان هناك معين لا ينضب لمثل هذه القصص اشتملت عليه كتب التصوف والوعظ التي حفل بها العالم الاسلامي قبل جلال الدين، فنجد في مثل هذه القصص ما يتعلق بذي النون المصري، وابراهيم بن ادهم او غيرهما من رجال العرفان والتصوف.
وبعض من القصص الاخرى يتعلق بسير الملوك والخلفاء، وقد يعين الشاعر اسم الملك، وقد لا يذكر شيئاً عن شخصه وانما يقتصر على تعيين مكانه، والى جانب قصص الملوك هناك قصص الوزراء وغيرهم من ذوي السلطان.
ومن بين قصص المثنوي ما يتعلق بسيرة الحكماء او الفلاسفة او الاطباء، ومنها ما يتعلق بالفقهاء والمتكلمين وبخاصة في معرض المحاورات التي يناقش فيها اساليبهم في الفكر والنظر.
ومن القصص ما يتعلق بالجواري والعبيد، ومنها ما هو مقتبس من كتاب كليلة ودمنة او غيره من الكتب التي سارت على نهجه، كما كان للقصص الشعبي ايضاً نصيبه في المثنوي حيث تناول الشاعر باسلوبه بعض قصص الف ليلة وليلة، وبعض النوادر الشائعة على نطاق شعبي كنوادر جحا.
وبذلك فقد كان لتنوع المصادر التي اقبتس الشاعر منها قصصه، ولتعدد المواقف التي عالجها اثر كبير في ربط المثنوي بالحياة، وبالمجتمع البشري، فاصبح ملحمة خالدة، توفر لها من عناصر البقاء ما جعلها مرآة لكل عصر.
فالغرائز البشرية، والفضائل والمثالب، والناس في اسمى صورهم وفي احطّها، او في اروع وارفع درجاتهم وادناها قد ظفروا بتصوير بارع جعل منهم نماذج تصدق اوصافها في كل عصر، وتتحقق سماتها في كل زمان ومكان.
ولكن تناول جلال الدين لهذه القصص لم يكن مجرد رواية لها، بل انه اضفى عليها جدة، وعبر عنها باصالة، فاصبحت القصص كأنها من صنعه.
ومن بين تلك القصص التي يغص بها المثنوي نذكر على سبيل المثال قصة (الخليفة والشيطان)، علماً ان الاصل الذي يمكن ان تستند اليه هذه القصة هو عبارة عن نص صغير ورد في قصص الانبياء للثعلبي هو كالتالي:
(يُروى ان رجلاً كان يلعن ابليس كل يوم الف مرة، فبينما هو ذات يوم نائم اذ اتاه شخص فايقظه وقال: قم فان الجدار ها هو يسقط، فقال له: من انت الذي اشفقت عليّ هذه الشفقة!
فقال له: انا ابليس. 
فقال: كيف هذا وانا العنك في كل يوم الف مرة. 
فقال: هذا لما علمت من محل الشهداء عند الله، فخشيت ان تكون منهم، فتنال معهم ما ينالون).
لقد عالج شاعرنا المولوي هذه القصة في ابيات تبلغ المائتين تقريباً تكاد تكون ملحمة صغيرة، اختار لها الاشخاص، وصاغ لها حواراً رائعاً، فقد اقام عمله على حوار بين احد خلفاء المسلمين وبين الشيطان، حيث يصور الخليفة المؤمن وهو يقاوم خداع الشيطان، ويفلح في اكتشاف مكره بعد حوار طويل دافع فيه الشيطان عن نفسه، وحاول ان يقدم تبريراً خلقياً لاعماله.
ونلحظ هنا المقدرة الدرامية في اختيار الشخصية التي وضعها في مواجهة الشيطان، فاختيارخليفة لهذا الدور لم يكن لمجرد انه يمثل منصباً دينياً، بل لما يتصف به الحاكم عادة من دهاء يجعله قادراً على متابعة الحوار مع الشيطان، ويتيح القدر الضروري من الصراع الذي ينبغي توفره في مثل هذا العمل الفني.
وقد اتاح الشاعر للشيطان كل امكانات الدفاع عن نفسه، واورد على لسانه كل ما يمكن ان الحجج لتبرير موقفه، ولم يصل به الى موقف الهزيمة الا بعد ان اتاح له بيان اسباب سقوطه، ومواقفه الاخلاقية.
وتبدأ القصة مستمعينا الافاضل، في قصر الخليفة حيث كان نائماً، والقصر موصد الابواب، فيوقظه رجل يعترف له انه ابليس، وحين يسأله الخليفة عن السبب الذي دعاه الى ان يقطع عليه سباته يجيبه ابليس بقوله:
(انّ ميقات الصلاة قد اوشك على الانتهاء
فيجب عليك ان تهرع مسرعاً الى المسجد...).
حينئذ يردعه الخليفة قائلا: (ان الخير لا يكون من مقاصد الشيطان!).
فيدافع الشيطان عن نفسه قائلا:
(لقد كنت في بداية امري ملكاً، وما اكثر ما سلكت بالروح سبيل الطاعة!
لقد كنت امين سرّ السالكين لهذا الطريف
كما انني كنت رفيقاً لسكان العرش
فكيف يخرج من قلب الانسان شغله الاول
وكيف يفترق عن فؤاده اوّل حبّ؟!)
وهكذا يمضي ابليس في الدفاع عن نفسه، فيواجهه الخليفة، ويعدد له افعاله القبيحة التي اقترفها خلال القرون وما ادت اليه من هلاك اصاب اجيالاً من الناس، فيقول:
(فانت النار، وانك لتحرق، ولا حيلة لك في ذلك
ومن ذا الذي لم تمزق يداك له ثيابه؟!
ان لعنة الله هي التي جعلتك تُحرق
وهي التي جعلتك استاذاً لكافة اللصوص...).
ويدافع ابليس عن نفسه بقوله:
(ألا فلتحل هذه العقدة، انني انا المحك للنقد الزائف والصحيح،
فالحق هو الذي جعلني فيصلاً بين صحيح النقد وزائفه
ومتى كنت انا الذي جعل الزائف اسود الوجه؟
انني انا الصيرفي الذي حدد قيمته
وكيف اجعل من الخيّر شريراً؟ انني لست الهاً، ان انا الاّ داع
ولست خالقاً لهما!
وهل اجعل من الجميل قبيحاً؟ انني لست رباً
وما انا الا مرآة للقبح والجمال!...).

*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة