مستمعينا الاحبة، سلام من الله عليكم ورحمة وبركات، واسعد الله اوقاتكم بكل خير وبركة، مع حلقة جديدة من برنامجكم الاسبوعي الذي يجول في عالم التراث، برنامج (عبارات واشارات)، آملين ان تمضوا معنا اوقاتا مفعمة بكل ما هو مفيد وممتع.
اخوتنا المستمعين الكرام، بعد ان يتحدث الغزالي حول القلب، وكيفية معرفة حقيقته، وحقيقة الروح وكون ان الروح هي من امر الله تعالى، وان الانسان بحواسه القاصرة، ومعارفه المحدودة لايمكنه ان يدرك حقيقة الروح بصريح قوله سبحانه في محكم كتابه: «ويسألونك عن الروح، قل الروح من امر ربّي، وما اوتيتم من العلم الاّ قليلاً» (الاسراء، 85).
بعد ان يبسط ابو حامد الغزالي القول في كل ذلك يعقد موضوعاً يبين فيه سبب احتياج الانسان الى الجسم فيقول في هذا المضمار: «اعلم ان الجسد هو مملكة القلب، فالقلب يمتلك جيوشاً مختلفة، وما يعلم جنود ربك الاّ هو» (المدّثر، 31)، وعمل القلب هو طلب السعادة، وسعادة الانسان تكمن في معرفة الله تعالى، ومعرفة الله لايمكن ان تتحصل الاّ من خلال معرفة صنعه، ومعرفة عجائب العالم انما تتأتّى عن طريق الحواس، وهذه الحواس تستمد وجودها من الجسد....
وعلى هذا يقول الغزالي فان المعرفة هي صيد الانسان، وحواسه مصيدته، وجسمه مركبه، ولهذا السبب فانه محتاج الى الجسد، والجسد مركب من الماء والتراب والحرارة والرطوبة، ولهذا فانه ضعيف، والهلاك محدق به من الداخل بسبب الجوع والعطش، ومن الخارج بسبب النار، والماء، ونوايا الاعداء، وبناء على ذلك فانه محتاج الى الطعام والشراب بسبب الجوع والعطش.
ويستنتج الغزالي بعد ذلك قائلاً في كتابه (كيمياء السعادة) ان الجسد بحاجة - بناء على ذلك- الى جيشيْن، جيش ظاهر كالاطراف، والفم، والاسنان، والمعدة، وآخر باطن كشهودة الطعام والشراب، ومن اجل ان يتصدى للاعداء الظاهرييْن فانه بحاجة الى جيشين ايضاً، الاول ظاهر كالاطراف والسلاح، والثاني باطن كالغضب.
وعندما يتعذر عليه طلب الطعام الذي لايراه، والتصدي للاعداء الذين لايراهم، فانه سيكون بحاجة في هذه الحالة الى الادراكات، وهذه الحاجات بعضها ظاهر وهي الحواس الخمس كالابصار، والشم، والسمع، والتذوق، واللمس، وبعضها باطن وهي خمسة ايضاً مركزها الدماغ كقوّة الخيال، وقوّة التفكير، وقوّة الحفظ والتذّكر، وقوّة التوّهم.
وكل من تلك القوى له عمل خاص به، واذا ما دخل الخلل واحدة منها، فان هذا الخلل سينفذ الى حياة الانسان في الدين والدنيا، وجميع جنود ذينك الجيشين الظاهر والباطن يأتمران بالقلب، فهو اميرها وملكها كلها، فاذا امر اللسان تكلم، وان امر اليد امسكت، وان امر الرجل مشت، واذا امر قوّة الفكر فكّرت وحملت الجميع على الطاعة والامتثال طوعاً وطبعاً.
ويُقرّ الغزالي ان الخالق جلّ وعلا، انما خلق الانسان على هذه الهيئة والتركيبة العجيبة الباعثة على الدهشة لدقتها لكي يتم الحفاظ على الجسد بالقدر الذي يتزود بزاده، ويحصل على صيده، فيتم بذلك تجارة الاخرة، وينثر بذور سعادته، فطاعة تلك الجيوش للقلب هي بمثابة طاعة الملائكة للحق تعالى، فهي لايمكنها ان تخالف في اي امر، بل ان من طبيعتها الامتثال طبعاً وطوعاً.
اخوتنا المستمعين، وفي فصل تحت عنوان (معرفة القصد من جيوش القلب) يبسّط الغزالي الحديث عن المراد بجيوش القلب التي سبق وان اشار اليها في الفصول السابقة فيضرب مثالاً مبسّطاً على ذلك بالمدينة بما فيها من شرائح وطبقات مختلفة يكمل بعضها البعض بهدف ان تسير الامور والشؤون الحياتية المختلفة في هذه المدينة بانتظام.
فالاطراف والاعضاء هي عند الغزالي بمثابة اصحاب المهن والحرف في هذه المدينة، والشهوة هي بمنزلة العامل على الخراج، والغضب يشبه حرّاس المدينة، والقلب هو ملكها وسلطانها، والعقل وزيره، ومن المعلوم ان الملك يحتاج اليهم كلهم لكي تستقيم شؤون المملكة.
فالشهوة التي هي بمثابة العامل على الخراج من طبيعتها الكذب، والفضول، والخلط بين الامور، وهي تبادر الى الاعتراض على ما امره بها العقل الوزير، وهي تبغي دوماً ان تنهب كل ما في المملكة من اموال بحجة الخراج، واما الغضب الذي هو بمثابة حارس المدينة فانه شرير، فظّ، وحادٌّ، ولا يحبّ سوى القتل، والتحطيم، والهدم.
ومن المفترض في هذه الحالة على الملك ان يستشير الوزير دائماً، وان يعرض للعقاب عامل الخراج الكذّاب والجشع، وان لايصغي الى كلامه فيما يخالف فيه الوزير، ويسلّط عليه الحارس لكي يمنعه من فضوله، كما ان على الملك ايضا ان يقهر ويقمع الحارس لكي لا يتعدى حدوده.
فاذا ما فعل الملك - الذي هو القلب هنا- ذلك ساد النظام المملكة، كما انه اذا تصرف وفقا لمشورة الوزير، واخضع الشهوة والغضب لسيطرة وامر العقل، ولا يفعل العكس فيُخْضِعَ العقل لهما، فان شؤون مملكة الجسد سوف تستقيم وتنتظم، وسوف لاينقطع طريق السعادة، والوصول الى الحضرة الالهية، واذا ما حدث العكس فاصبح العقل اسيراً للشهوة والغضب، تهدّمت المملكة وسادها الخراب، واصبح الملك تعيساً شقياً، وكان مصيره الهلاك.
احبتنا المستمعين الكرام، وفي الفصل الختامي من كتابه الاخلاقي التربوي (كيمياء السعادة) يتوصل ابو حامد الغزالي الى جملة نتائج بشأن العلاقة بين الجسد ومتطلباته وغرائزه من جهة، وبين القلب والعقل ومسؤولياتهما ووظائفهما من جهة اخرى فيقول: (علمت من جملة ما مضى ان الشهوة والغضب خُلِقا للطعام والشراب والمحافظة على الجسد، فهما خادمان له، وان الجسد خُلِقَ لحمل الحواس فهو خادمها، والحواس خُلِقَت لكي يتجسس العقل بها، ويعرف عجائب صنع الله تعالى بواسطتها، فالحواس - اذن- هي خادمة للعقل، والعقل خُلِقَ للقلب لكي يكون شمعته وسراجه، ولكي يرى به نور الحضرة الالهية، وعلى هذا فان العقل خادم القلب، والقلب خُلِقَ لرؤية جمال الربوبيّة، فاذا ما شغل بالدين، واصبح خادماً وعبداً للحضرة الالهية، وتحقق فيه قوله تعالى: «وما خلقت الجنّ والانس الاّ ليعبدون» (الذاريات، 56)، فسوف يكون بامكانه ان يسافر من عالم التراب الى اعلى علّيين...).
فاذا اراد القلب الانساني ان يؤدي حق هذه النعمة، ويلتزم بشروط العبودية، فان عليه ان يتخذ مكانه في صدر مملكته الجسد كالملك، وان يتخذ من الحضرة الالهية قبلةّ ومقصداً، ويجعل من اطراف واعضاء الجسد خدمة له، ومن العقل وزيراً، والشهوة جابياً للمال، والغضب حارساً، والحواس جواسيس، ويوكل كلاً منها الىعالم آخر لكي يجمع اخبار ذلك العالم دوماً، ويتخذ من قوّة الخيال المستقرة في الدماغ صاحباً للبريد لكي يجمع له الجواسيس جميع الاخبار.
وان يجعل - بالاضافة الى ذلك- من قوة الحفظ صاحباً للخرائط او ما يسمى اليوم بمسؤول الارشيف حتى يأخذ تقرير الاخبار من يد صاحب البريد ويحفظها، ويعرضها في وقتها على العقل الوزير، لكي يتسنى للوزير وفقاً للاخبار التي تصل اليه عن مملكته تدبير المملكة، وسفر الملك، فاذا ما رأى ان احد الجيشين، الشهوة والغضب قد تمرّد عليه وخرج عن طاعته، وقصد قَطْع الطريق عليه، فان عليه ان يردّه الى الطاعة.
وكل ذلك بهدف ان يكون له ذلك الجيش نصيراً في سفره الذي ينتظره لا عدوّه، وصديقاً لا لصاً وقاطع طريق، فان فعل ذلك كان سعيداً، وادى حق النعمة، وتمتع بجزاء هذه النعمة في الوقت المناسب.
وان تصرف خلافاً لذلك، وبادر الى تأييد مافعله قطّاع الطرق، والاعداء، فانه يكون بذلك قد كفر بالنعمة، واضحى شقياً تعيساً، ورأى نكال وعقوبة ذلك في العاجلة قبل الآخرة.
بهذا - اخوتنا المستمعين الافاضل- نختتم تطوافنا في رحاب رائعة ابي حامد الغزالي (كيمياء السعادة)، على امل ان نلتقيكم في الحلقة القادمة عبر رائعة اخرى من روائع التراث الاسلامي الذي اسهم من خلاله الايرانيون في تشييد صرح الحضارة الاسلامية والانسانية. نستودعكم العليّ القدير، والى الملتقى.
*******