البث المباشر

الغزالي وكتاب "كيمياء السعادة"

السبت 21 سبتمبر 2019 - 12:22 بتوقيت طهران
الغزالي وكتاب "كيمياء السعادة"

اذاعة طهران - برنامج : عبارات و اشارات - فقرة : الغزالي وكتاب "كيمياء السعادة"

 

مستمعينا الاكارم السلام عليكم، اهلاً ومرحباً بكم في هذه الحلقة من برنامجكم الجديد.. عبارات واشارات.. حيث نتعرف معاً على روائع ما جادت به قرائح الادباء والعلماء، والفلاسفة المسلمين في ايران.
من آثار واعمال خالدة ستظل مصابيح وضاءة دوماً في سماء الفكر والمعرفة والادب..
ترى بأيّ رائعة، وبأيّ شخصية نبتدئ حديثنا، وندشن جولتنا وتحليقنا بين اشارات وعبارات التراث الايراني؟
بأبي حامد محمد بن احمد الغزالي، الفقيه، والمتكلم، والفيلسوف الاسلامي الكبير ورائعته الخالدة (كيمياء السعادة) التي كتبها باللغة الفارسية اصلاً، وترجمت الى اللغة العربية.
ولد هذا العالم الكبير عام اربعمائة وخمسين من الهجرة في مدينة طوس بخراسان، ويعد من جملة كبار الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة المسلمين الذين لم يكن يوجد لهم نظير في عصرهم كما ذكر ذلك ابن خلكان في كتاب الوفيّات..
في بداية امره تلقى هذا العالم الكبير علوم عصره على يد امام الحرمين ابي المعالي الجويني حيث تعلم علوم الفقه، والكلام، والشريعة.
استطاع الغزالي خلال فترة قصيرة ان يحيط باغلب العلوم التي كانت شائعة في عصره، واصبح من ابرز تلامذة استاذه الجويني الذي كان يعيش في مدينة نيسابور آنذاك.
وعلى الرغم من ان الغزالي تمكن حتى سن الثامنة والعشرين من ان يتبحر في الغالبية العظمى من العلوم الشائعة في عصره، الاّ ان اياً من تلك العلوم لم يستطع ان يهديه الى الحقيقة واليقين اللذين ظل يبحث عنهما حتى فترة متأخرة من عمره.
ولذلك فقد غادر نيسابور بعد وفاة استاذه الجويني، وصادف ان جمعه اللقاء مع الخواجه نظام الوزير الملك الطوسي، فأعجب الاخير بشخصية الغزالي، واصبح اثيراً لديه، بحيث ان نظام الملك كان يسمح للغزالي بان يشترك في جميع المجالس والمناظرات التي كانت تقام في مجلسه.
ومن خلال هذه المجالس والمناظرات استطاع الغزالي ان يحقق شهرة واسعة في جميع اقطار العالم الاسلامي، وان يبرز فضله، وتمكنه من علوم زمانه للعلماء الآخرين.
وبعد ست سنوات من وفاة الجويني اي في عام اربعمائة واربعة وثمانين للهجرة شدّ الغزالي الرحال الى بغداد للتدريس في المدرسة النظامية فيها، حيث انشغل بتدريس العلوم المختلفة التي تعلمها، واضحى استاذاً فيها.
وفي خلال هذه الفترة خرّج الغزالي على يديه الكثير من التلامذة، وأُعجب اهل العراق بعلمه وفضله حتى بلغ ذروة منزلته في عالم الفقه والكلام.
ولم يكد ابو حامد الغزالي يبلغ الاربعين من عمره حتى حدث انقلاب روحيٌّ وفكريٌّ في كيانه، وتوجهاته فقد توجه بكلّيته الى عالم الزهد، والتصوف، والعرفان.
ولعل السبب في ذلك يعود الى اضطراب الاوضاع الاجتماعية والسياسية في عصره، فقد كان الظلم هو السائد، وكان الحكام والامراء الظلمة منهمكين في ممارسة الظلم على الضعفاء، والفقراء من الناس.
فحدثت نتيجة لذلك ردّة فعل عنيفة في نفس الغزالي ادت به الى ان يعتزل عن الناس، وينشغل بالعبادة والذكر والتطواف في اقطار العالم الاسلامي وذلك على عادة العبّاد والمتصوفة آنذاك.
وفي عام اربعمائة وثمانية وثمانين للهجرة النبوية الشريفة على القائم بها آلاف التحية والسلام، توجه الغزالي الى دمشق، ومكث فيها سنتين، انشغل خلالهما بالرياضات الروحية.
وفي غضون هذه الفترة، اخرج الغزالي رائعته الاسلامية الخالدة (احياء علوم الدين).
ومن دمشق شد (الغزالي) رحاله الى بيت المقدس حيث زار في هذه المدينة المقدسة التي تعد مهد الرسالات السماوية البقع الطاهرة والمقدسة الموجودة في مستلهماً الدروس والعبر فيها.
بعدها توجه ابو حامد الغزالي الى مصر، واقام في الاسكندرية لفترة، حيث قفل راجعاً منها الى موطنه ومسقط رأسه طوس.
وفي خلال هذه الفترة عكف الغزالي باذلاً كل جهوده ومساعيه على احياء العلوم الدينية القائمة على القرآن، والسنة النبوية الشريفة، والدفاع عن تعاليم الاسلام.
ولذلك فقد لُقِّب بحجة الاسلام، وزين الدين، وعالم العلماء.. وما الى ذلك من القاب تدل على عظيم منزلته، وكبر قدره بين العلماء والمسلمين.
خلّف ابو حامد الغزالي في عالم الفقه، والفلسفة، والكلام الكثير من المؤلفات والتصانيف الخالدة التي كان لها الاثر الاكبر على مسيرة الفكر الاسلامي عبر العصور المختلفة.
ومن هذه المؤلفات نذكر على سبيل المثال (تهافت الفلاسفة) و(القسطاس المستقيم) و(المستصفى) و(مشكاة الانوار) و(المنقذ من الضلال) و(مقاصد الفلاسفة).
وله ايضاً رسالة صغيرة في التربية والاخلاق تحت عنوان (ايّها الولد) ترجمها المجمع العلمي لليونسكو الى الانجليزية، والفرنسية..
وقد ذكر الغزالي في هذه الرسالة ان العلم بدون عمل جنون، وان العمل بدون علم امرٌ مستحيل.
ومن بين اشهر مؤلفات الغزالي كتابه (احياء علوم الدين)، حيث الّفه بهدف الدفاع عن الدين والمحافظة عليه في ظل الاوضاع المضطربة التي كانت تسود عصره.
وقد كتب الغزالي فيما بعد خلاصة لهذا الكتاب بالفارسية اطلق عليها اسم (كيمياء السعادة)، وهذا الكتاب هو الذي سيكون موضوع جولتنا في سماء الفكر في هذه الحلقة، والحلقة التالية من البرنامج.
واخيراً، وبعد تلك المسيرة الحافلة بالعلم والعطاء، التحق حجة الاسلام ابو حامد الغزالي بالرفيق الاعلى سنة خمسمائة وخمسة للهجرة في طوس مسقط رأسه، ووري جثمانه الثرى فيها.
ارى ان الوقت قد حان الان لاستعراض وتحليل نماذج من كتاب (كيمياء السعادة) ذي المضامين التربوية والاخلاقية.
فلنبدأ من عنوان الكتاب.. ترى ما هو المقصود من الكيمياء هنا؟
الكيمياء في لغة ذلك العصر كانت تطلق على نظرية العلماء آنذاك بامكانية تحويل المعادن الخسيسة الى معدن الذهب النفيس، وهي امنية طالما سعى العلماء القدماء الى تحقيقها دون ان يوفقوا الى ذلك.
وبذلك فان الغزالي اعتبر النصائح والارشادات والتوجيهات التي ضمنها كتابه بمثابة السرّ الذي يستطيع من خلاله الانسان ان يصل الى السعادة الحقيقية.
فلنقم بجولة في فصول وابواب هذا الكتاب القيّم لنرى ما هي المفاتيح التي يقدمها لنا ابو حامد الغزالي والتي نستطيع من خلالها ان نفتح ابواب السعادة والهناء.
في الفصل الاول من هذا الكتاب يتحدث الغزالي عن الاساليب المثلى لتربية، وتأديب الاطفال والاحداث فيقول مخاطباً الآباء والامهات: (اعلم ان الولد امانة بيد الام والاب، وان قلبه نقيٌّ طاهر كالجوهر النفيس، وانه كالشمع قابل لان ينقش عليه، وكالارض البكر التي ينبت عليها كل ما بذرته فيها، فان بذرت بذور الخير بلغ الولد سعادة الدين والدنيا، واشترك الاب والام والمعلم في الثواب، وان كان الامر خلافاً لذلك كانت التعاسة مصيره، واشترك معه في تعاسته مؤدّبوه، فالحق تعالى يقول «قوا انفسكم واهليكم ناراً» (التحريم، 6)، ومن المعلوم ان حفظ الطفل من نار الدنيا اولى من حفظه من نار جهنم..).
ويرى الغزالي ان المحافظة على الطفل انما تكون في تأديبه، وتعليمه محاسن الاخلاق، وحفظه من قرين السوء، ذلك لانه مصدر جميع المفاسد، كما يجب عدم تعويد الابن على الترف، واغراقه في النعم، ومظاهر البذخ لانه في هذه الحالة سوف يكون قليل الصبر، عديم التحمّل والجَلَد.
يقول الغزالي في هذا الصدد مخاطباً الاب والام: (... وعليك ان لا تعوّده على ما طاب من النعم، والملبس، فحينئذ لايكون بامكانه الصبر، وسوف يضيّع عمره في طلبه. وعندما يختار الوالدان المرضع لولدهما، فان عليهما ان يعهدا برضاعته مرضعاً معروفة بالصلاح، وحسن الخلق، واكل الحلال، فسوء الخلق انما يسري الى الطفل من المرضع، واللبن الذي يتجمع من الحرام سيكون حاصله خبيثاً، وعندما ينمو لحم الطفل وجلده من هذا اللبن الحرام، فان طبعه سيكون متناسباً مع ذلك، وهذه الآثار لابد ان تظهر عليه بعد البلوغ...).
ويستمر الغزالي في القاء نصائحه، وارشاداته بشأ، تربية الطفل التربية المثلى التي تضمن له ان يكون عنصراً مفيداً لمجتمعه فيقول مشيراً الى المرحلة التي يصبح فيها الطفل قادراً على النطق: (... وعندما يفتح الطفل لسانه بالكلام فان من الواجب ان تكون كلمة "الله" هي الكلمة الاولى التي ينطقها بعد ان يلّقنه ابواه هذه الكلمة، وحينما يتربّى على ان يشعر بالحياء من بعض الاشياء، فان هذه بشارة ودليل على ان كل من استضاء بنور العقل، جعل لنفسه حارساً من الحياء يدفعه الى ان يخجل من ارتكاب كل ما هو قبيح وسيّء..).
وفي فصل آخر من كتابه (كيمياء السعادة) يبسّط الغزالي الحديث عن العلم ومكانته ويصرح في هذا المجال ان الانشغال بطلب العلم، وتعليمه للآخرين هو افضل الاعمال التي من الممكن للانسان ان يزاولها.
يقول الغزالي مسلطاً الاضواء على اهمية العلم، ومنزلته السامية: (... وبعد ان علمت ان الجاهل والاميّ لايمكن ان يكون في مأمن من الخطر يتبين لك ان لا عمل ينشغل به الانسان اسمى، واكثر فضلا من العلم، لان الاعمال الاخرى انما يكون الهدف منها طلب الدنيا، في حين ان الهدف من طلب العلم، وتعليمه، اصلاح اوضاع الخلق في هذه الدنيا...).
احبتنا المستمعين الاكارم، ها هو الوقت المخصص للبرنامج يدركنا، ولذلك فاننا مضطرون الى ان نودعكم على امل اللقاء بكم في حلقة الاسبوع المقبل ان شاء الله. لكي نكمل جولتنا في كتاب (كيمياء السعادة) لابي حامد الغزالي، عبر برنامجكم الاسبوعي: عبارات واشارات.

*******

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة