البث المباشر

في تأبين أبي الفضل العباس (ع) ومراثيه

السبت 3 يوليو 2021 - 20:30 بتوقيت طهران
في تأبين أبي الفضل العباس (ع) ومراثيه

كثر تأبين العباس الأكبر ورثاه عامة الشعراء في سائر العصور بمختلف الألسنة ومتنوع اللهجات من الفارسية والهندية والتركية والعربية بنوعيها القريض والحسجة وهو اللغة الدارجة العامية.

وبلغت في إثار الحماس وتهييج الحزن فوق ما بلغته اللغة الفصيحة ولو جمعت تلك المراثي لبلغت عدة مجلدات ضخمة الحجم.
وقد فرق علماء الأدب بين التأبين والمراثي وقد نوعت العرب الرثاء أنواعاً قسمت كل نوع بأسم خاص فإن كان مشتملاً على تعداد محاسن المراثي والثناء عليه بمحاسن الأفعال ومكارم الأخلاق وواصفاً لشرفه وسؤدده وما قام به من الأعمال الجليلة فهو التأبين، ولا يفرقون في ذلك بين النثر والنظم، ومر في الفصول السابقة كثيرة من هذا النوع، ومنه قول الشاعر:

يطيب تراب الأرض إن نزلوا بها

 

وأحسن منه في الممات قبورها


وقول السيد القزويني في رثاء شهداء كربلاء:

إذا نازلوا أحمر القنا من نزالهم

 

وإن نزلوا أخضر الثرى بالمكارم

 

أشداءكم حلوا معاقد شدة

 

بشد المواضي قبل شد التمائم


وقول السيد الحلي فيهم:

أبا حسن يهنيك ما أصبحوا به

 

وإن كان للقتلى تقام المآتم

 

لأورثتهم مجداً وما كان حبوة

 

ولكن نصفاً في بنيك المكارم


وقول علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب في رثائهم:

إن الكرام بني النبي محمد

 

خير البرية رائح أو غادي

 

قوم هدى الله العباد بجدهم

 

والمؤثرون الضيف بالأزواد

 

كانوا إذا نهل القنا بأكفهم

 

سكبوا السيوف أعالي الأغماد

 

ولهم بجنب الطف أكرم موقف

 

صبروا على الريب الفظيع العادي

 

حول الحسين مصرعين كأنما

 

كانت مناياهم على ميعاد


وهو كثير في تأبين الحسين (ع) والشهداء معه وخاصة في شعراء العصر المتأخر كقول السيد الحلي:

سمة العبيد من الخشوع عليهموا

 

لله إن ضمتهم الاسحار

 

فإذا ترجلت الضحى شهدت لهم

 

بيض الصوارم أنهم أحرار


إن كان مشتملاً على ما يثير العواطف ويجرح الضمير بالمهيجات المحزنة والمرققات المشجية سموه بكاء وقد تقدمت شواهد هذا في منزلة العباس (ع) عند الحسين (ع) كرثاء مالك بن حري ومالك بن نويرة وأبي المغوار. ومنه قول عبد الرحمن بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب يرثي زيد بن علي بن الحسين أبن علي (ع):

ألا يا عين لا ترقي وجودي

 

بدمعك ليس ذا وقت الجمود

 

غداة ابن النبي أبو حسين

 

صليب بالكناسة فوق عود

 

يظل على عمودهموا ويمسى

 

بنفسي أعظماً فوق العمود

 

تعدى الكافر الجبار فيه

 

فأخرجه من القبر اللحيد

 

فظلوا ينبشون أبا حسين

 

خضيباً منهموا بدم جميد


ومنه قول داود السلمي يرثي شهداء فخ من العلويين:

يا عين إبكي بدمع منك منهتن

 

فقد رأيت الذي لاقى بنو حسن

 

صرعى بفخ وتجري الريح فوقهموا

 

أذيالها وغوادي دلح المزن

 

حتى عفت أعظم لو كان شاهدها

 

محمد ذب عنها ثم لم تهن

 

ماذا يقولون والماضون قبلهم

 

على العداة وأهل البغض والإحن

 

لا الناس من مضر حاموا ولا غضبوا

 

ولا ربيعة والأحياء من يمن

 

ماذا تقولون إن قال النبي لكم

 

ماذا صنعتم بنا في سالف الزمن

 

يا ويحهم كيف لم يرعوا لهم حرماً

 

وقد رعى الفيل حق البيت ذي الركن


ومنه قول عقبة بن عمرو السهمي سهم عوذ بن غالب وهو أول شعر رثي به الحسين الشهيد (ع):

إذا العين قرت في الحياة وأنتموا

 

تخافون في الدنيا فأظلم نورها

 

مررت على قبر الحسين بكربلاء

 

ففاض عليه من دموعي غزيرها

 

فما زلت أرثيه وأبكي لشجوه

 

ويسعد عيني دمعها وزفيرها

 

وبكيت من بعد الحسين عصائباً

 

أطاف به من جانبيه قبورها

 

سلام على أهل القبور بكربلا

 

وقل لها منا سلام يزورها

 

سلام بأوصال العشى وبالضحى

 

تؤديه نكباء الرياح ومورها

 

ولا برح الوفاد زوار قبره

 

يفوح عليهم مسكها وعبيرها


وأكثر مراثي القدماء من هذا النمط مثل مراثي الكميت ودعبل وجعفر بن عفان وغيرهم وهكذا يقول دعبل:

هلا بكيت على الحسين وأهله

 

هلا بكيت لمن بكاه محمد

 

فلقد بكته في السماء ملائك

 

زهر كرام راكعون وسجد

 

لم يحفظوا حق النبي محمد

 

إذ جرعوه حرارة لا تبرد



فإذا تضمن صرخة وعولة وارتفاع أصوات سموه نوحاً وندباً أو نياحة وندبة وهذا شيء مشهور تعرفه العرب. قال بعضهم يخاطب بثينة بعد موت جميل العندي:

قومي بثينة فأندبي بعويل

 

وأبكي خليلك دون كل خليل


الكثير منه في أشعارهم وكذلك في مراثي الحسين (ع) فقال بعضهم يذكر فاجعته:

ندبت لها الرسل الكرام وندبها

 

عن ذي المعارج فيهموا مسنون


وأكثر ما يصفون بالندب والنياح النساء ويسمون مأتم العزاء النسائي المناحة.
وإذا أشتمل الرثاء على الإعلان بموت المرثي سموه نعياً وأطلقوا على ذلك المخبر إسم الناعي وهو كثير في شعر العرب ومنه قول محمد بن علي بن حمزة في الحسن بن علي (ع).

يا كذب الله من ينعى حسناً

 

ليس لتكذيب نعيه ثمن

 

كنت خليلي وكنت خالصتي

 

لك حي من أهله مسكن

 

أجول في الدار لا أراك و

 

في الدار اُناس جوارهم غبن


وفي مراثي الحسين بن علي (ع) الكثي منه وقد قال الإمام زين العابدين (ع) لما رجع من الشام بعياله الأسرى إلى المدينة لحذلم بن بشير الأسدي: ثم وانع أبا عبد الله (ع) بيتين من الشعر فإن أباك شاعراً. فقام ودخل المدينة ونادى بأعلا صوته:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

 

قُتل الحسين فأدمعي مدرار

 

الجسم منه بكربلاء مضرج

 

والرأس منه على القناة يدار


فأطلقوا على كل مخبر بسوء إسم الناعي توسعاً فقالوا: الغراب ناعي الفراق، وفلان ناعي الخير. قال بعضهم:
 

يا ناعي الإسلام قم فانعه

 

قد مات عرف وبدا نكر


وخص العوام النعي بنوع من مراثيهم العامية (الحسجة) وهو المتجانس القوافي في جميع اشطره كالرجز العربي على روي واحد وقافية واحدة. وهناك نوع خامس تسميه العرب بالتعزية والتسلية وهو إذا كانت المرثية متضمنة لألفاظ السلوة والتعزية كقول الخنساء في أخيها الصخر:

يذكرني طلوع الشمس صخراً

 

وأذكره كل غروب شمس

 

ولولا كثرة الباكين حولي

 

على إخوانهم لقتلت نفسي

 

فما يبكون مثل أخي ولكن

 

اُعزي النفس عنه بالتأسي


وقالت اُخرى وقد قتل أخوها ولدها:

أوقل للنفس تسلاء وتعزية

 

إحدى يدي أصابتني ولم ترد

 

كلاهما خلف من فقد صاحبه

 

هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي


وهم يتفنون في هذا النوع فنوناً كثيرة لا يتسع الكتاب لها وهو الذي يستعمله شعراء هذه العصور في تأبين الكبار إذا فقدوا وخلفوا من له الكفاءة للقيام بمهمات الرياسة من دون فرق بين العلماء والاُمراء ويجعلون وجود الخلف الكافي تسلية وتعزية عن السلف الماضي غير أنه لا يكون ذلك في مراثي الحسين (ع) لعظم المصاب وشدة صدمة المصيبة والخلف الباقي وهو الإمام زين العابدين (ع) أغلق باب التسلية عنه في وجوه الراثين له وأوصده أمام المؤبّنين فلا سلوة ولا عزاء إلا بالأنتقام من قاتليه على يد الثائر من ولده الحجة المنتظر صاحب الزمان عجل الله فرجه، ولهذا كثر في مراثي الحسين (ع) أنتداب الإمام المهدي المنتظر في تعجيل الظهور لأجل الانتقام من قتلة جده وهذه الأنواع الخمسة قد يسميها العرب القدماء جميعاً بالمراثي كما يسميها المعاصرون من الشعراء بالتأبين، والحق ما ذكرنا وإن التأبين أعم من النثر والنظم ويختص من الشعر بما أشتمل على تعداد محاسن الفقيد كما قدمنا عن المرزباني إنه قال: إن التأبين ما كان في تعداد محاسن الميت.
وقال الفروزآبادي في القاموس: التأبين الثناء على الشخص بعد موته. وقال في مادة رثاء رثيت الميت رثاء ورثاية بكسرهما أو مرثاة أو مرثية مخففة ورثوته وعددت محاسنه كرثيته وترثيته نظمت فيه شعراء، إنتهى.
وقد أخطأ الفيروزآبادي في هذا التعريف إنما التأبين تعداد المحاسن كما قال أولاً والرثاء مشتق من الرقة من باب رثى إذا رق له ولان له قلبه فإن العرب تقول: فلان يرثي له وأصبح بحالة يرثى له ومعناه أنه قد صار في حال ينصدع لها القلب ويرق.
قال الفيومي في المصباح المنير: رثيت الميت أرثيه ورثيت له ترحمت ورفقت له.
 

تأبين الشعراء ورثائهم للعباس الأكبر بن أمير المؤمنين (ع):


قد عرفت أنها كثيرة وأكثرهما مطبوع في كتب المقاتل والتراجم ومستقلاً وأنا مورد بعض ما يعجبني وإن تكرر طبعه وما أستلذه منه وإن حفظه أكثر الخطباء.
فمنه قول الحاج محمد رضا الاُزري البغدادي في تأبين أبي الفضل العباس من قصيدته التي بارى فيها معلقة لبيد وأنا أشرح بعض معانيها مختصراً. قال (رحمه الله):

أوما أتاك حديث وقعة كربلاء

 

أنى وقد بلغ السماء قتامها

 

يوم أبو الفضل أستجار به الهدى

 

والشمس من كدر العجاج لثامها


كأن هذا الأديب يشير بقوله أستجار به الهدى إلى أن أبا الفضل جدير أن يلقب بمجير الهدى كما لقب ربيعة بن مكدم بمجير الظعن، وأبو حنبل بن مز بمجير الجراد. واشتقاق اللقب كما عرفته سابقاً كثيراً ما يكون مشتقاً من صفات الملقب به أو من فعل صادر من أفعاله فكان الكناني مجيراً للظعن والطائي مجيراً للجراد الواقع بجواره والبطل العلوي مجيراً للهدى ولشرفه وما أحقر مجيراً الظعن ومجير الجراد أمام عظمته.

والبيض فوق تحسب وقعها

 

زجل الرعود إذا أكفهر غمامها

 

فحمى عرينته ودمدم دونها

 

ويذب من دون الشرى ضرغامها

 

من باسل يلقى الأسنة باسماً

 

والشوس يرشح بالمنية هامها


هذه غاية البطولة ونهاية الفروسية أن يخوض التي تزداد فيها وجوه الأبطال كلوحاً وعبوسة، وترشح هامها دماً باسماً مبتهجاً يحسب رشحات قعامات الأبطال رشحات وجنات الخدود الموردة.

واشم لا يحتل دار هضيمة

 

أو يستقل على النجوم رغامها


فكما أنه من المستحيل أستعلاء الرغام الذي هو التراب على أنجم السماء المرتفعة عنه أرتفاعاً لا يحد بالضبط والدقة كان من المستحيل أن يحتل العباس الأبي النفس الحمى الأنف دار مذلة وهوان وهي أبعد من متناول شممه من الرغام من نجوم السماء.

أولم تكن تدري قريش أنه

 

طلاع كل ثنية مقدامها


ليست قريش وحدها تدري أنه طلاع الثنايا المخوفة والنجود المرعبة بل العرب قاطبة تعلم أنه الطلاع للثنايا المخوفة والمقدام في الأهوال ساعة الزحف والسابق إلى خوض تيار الأخطار فهو مقدام العرب لا قريش خاصة وأبوه والمرتضى مقدام الاُمم لا العرب فقط.

بطل أطل على العراق مجلياً

 

فاعصوصبت فرقاً تمور شئامها


لا شك أن الألوية والنواحي المرتبطة بعاصمة من العواصم إذا عصفت إحدى الزوابع فزعزعت ذلك القطر أو أنفجرت بعض البراكين فنسفت ذلك الاقليم أرتجت العاصمة وشملها الرعب وإن بعدت خوفاً أن تهب من ضواحيها تلك الزوبعة الهائلة أو يفجر في نواحيها ذلك البركان الشديد فتندك معاقلها وتنهار حصونها وتنسف أبراجها وتزعزع شوامخ رواسيها فبركان الشجاعة العباسية المنفجر في الجيش الاموي الكوفي زوبعة الطبولة العلوية التي هبت بمعسكر جند آل حرب مارت لنبئة الشام فرقاً من صدمته وخوفاً من هوله.

وشأ الكرام فلا ترى من اُمة

 

للفخر إلا أبن الوصي إمامها

 

هو ذاك موئل رأيها وزعيمها

 

لو جل حادثها ولد خصامها

 

وأشدها بأساً وأرجحها حجى

 

لو ناص موكبها وزاغ أقدامها


تضرب العرب مثل المبالغة في نعت الجيوش العظيمة ذات الثبات في الزحف والمقاومة عند الضرب والصبر في الجلاد أعتماداً على قوتها من حيث الكثرة والاستعداد والصبر فيقولون: كتائب كالجبال أو هي جبال من حديد، أو جبال لا تزول من مقرها إلا أن تضرب بجبال مثلها، هكذا يقولون وبهذا ينطقون وقد قال معاوية يوم صفين في ربيعة العراق وكانوا في مسيرة أمير المؤمنين علي أبن أبي طالب (ع) وقائدهم عبد الله بن العباس:

إذا قلت قد ولت ربيعة أقبلت

 

كتائب منهم كالجبال تجالد


وقولهم جبال من حديد نظراً لما عليهم من الأدراع والمغافر الحديدية وقد قال بعض قواد صفين ولقيت جبال الحديد يدك بعضها بعضاً وجبال الحديد هذه يوم الطف قد لاقاها أبو الفضل العباس بجبال أعظم منها دكها بها وهي عزمه وثباته ونجدته وبأسه وحفاظه وبصيرته ويقينه فهو فرد من شخصه جموع في صفاته.

ولكم له من غضبة مضرية

 

قد كاد يلحق بالسحاب ضرامها


يشير بهذا البيت إلى قول شاعر مضر وفارسها في عصر الجاهلية:

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة