في هَلْ أَتَى إن كنت تقرأ هَلْ أَتَى
ستصيب سعيهُم بها مَّشْكُورًا
إذ أطعموا المسكين ثمة أطعموا
الطفل اليتيم وأطعموا المأسورا
قالوا لوجه الله نطعمكم فلا
نبغي جزاءاً منكم وشُكُورًا
إنا نخاف ونتقي من ربنا
يَوْمًا عَبُوسًا لم يزل محذورا
فوقوا بذلك شر يوم عابسٍ
ولقوا بذلك نَضْرَةً وَسُرُورًا
وجزاهم رب العباد بصبرهم
يوم القيامة جَنَّةً وَحَرِيرًا
وَسَقَاهُم من سلسبيل كأسها
بمزاجها قد فجرت تَفْجِيرًا
يُسْقَوْنَ فِيهَا من رحيق تختم
بالمسك كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا
فيها قوارير وَأَكْوَابٍ لها
مِن فِضَّةٍ قد قدرت تَقْدِيرًا
يسعي بها ولدانها فتخالهم
للحسن منهم لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا
بسم الله وله المجد والحمد والثناء أن جعلنا من أهل ولاية ومودة أهل الجود والكرم والمؤثرين عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
أسعد الله أوقاتكم وأنتم تعيشون هذه الأيام المباركات في العشر الاواخر من شهر ذي الحجة الحرام ومنها اليوم المبارك يوم الله الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة الذي خلّده الله إذ أنزل فيها آيات سورة هَلْ أَتَى المادحة لعائلة أمير المؤمنين (عليه السلام) لما ظهر من إخلاصهم لله عزوجل وهم يوفون بالنذرو يؤثرون المحتاجين علي أنفسهم وهم في أشد حالات الحاجة نلتقيكم بهذه المناسبة العزيزة في هذا اللقاء الخاص من برنامج أيام خالدة ضمن الفقرات التالية:
- نعرض لكم تفاصيل هذه القصة طبق ما رواه مؤرخو السنة والشيعة ضمن فقرة عنوانها: تكريم إلهي لأهل الوفاء والإيثار والإخلاص
- ثم نقدم قراءةً سريعة لبعض أسرار قصة وفاء العترة المحمدية بالنذر ضمن فقرة عنوانها: نورٌ علي نور
*******
عنوان الفقرة التالية هو:
تكريم إلهي لأهل الوفاء والايثار والاخلاص
ننقل لكم تفاصيل قصة أهل الوفاء بالنذر والإيثار ونزول آيات سورة الدهر في مدحهم مما نقله علماء الفريقين كالشيخ الصدوق في كتاب الأمالي والكنجي الشافعي في كفاية الطالب والزمخشري في الكشاف وغيرهم كثير: وجاء فيها طبقه رواية الصدوق عن مولانا الصادق (عليه السلام) قال: مرض الحسن والحسين (عليهما السلام) وهما صبيان صغيران، فعادهما رسول الله (صلي الله عليه وآله) ومعه رجلان، فقال أحدهما: يا أبا الحسن، لو نذرت في ابنيك نذراً إن الله عافاهما.
فقال: أصوم ثلاثة أيام شكراً لله عزوجل وفي رواية قال: لئن عافي الله حبيباي سبطي محمد (صلي الله عليه وآله) وكذلك قالت فاطمة (عليها السلام)، وقال الصبيان: ونحن أيضاً نصوم ثلاثة أيام، وكذلك قالت جاريتهم فضة، فألبسهما الله عافية، فأصبحوا صياماً وليس عندهم طعام. فانطلق علي (عليهما السلام) إلي جارله من اليهود يقال له شمعون يعالج الصوف - أي يعمل فيه فقال: هل لك أن تعطيني جزة من صوف تغزلها لك ابنة محمد بثلاثة أصوع من شعير؟
قال: نعم. فأعطاه فجاء بالصوف والشعير، وأخبر فاطمة (عليهما السلام) فقبلت وأطاعت، ثم عمدت فعزلت ثلث الصوف، ثم أخذت صاعاً من الشعير، فطحنته وعجنته، وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد قرص، وصلي علي (عليهما السلام) مع النبي (صلي الله عليه وآله) المغرب، ثم أتي منزله، فوضع الخوان وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي (عليهما السلام) إذا مسكين قد وقف بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله علي موائد الجنة.
فوضع اللقمة من يده، ثم قال: [وكأنه بلسان الحال]:
فاطم ذات المجد واليقين
يا بنت خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين
جاء إلي الباب له حنين
يشكو إلي الله ويستكين
يشكو إلينا جائعاً حزين
كل امرئ بكسبه رهين
من يفعل الخير يقف سمين
موعده في جنة رحيم
حرمها الله علي الضنين
وصاحب البخل يقف حزين
تهوي به النار إلي سجين
شرابه الحميم والغسلين
فأقبلت فاطمة (عليهما السلام) تقول:
أمرك سمعٌ يا بنَ عم وطاعة
ما بي من لؤم ولا وضاعة
غذيت باللب وبالبراعة
أرجوإ ذا أشبعت من مجاعة
أن ألحق الأخيار والجماعة
وأدخل الجنة في شفاعة
وعمدت (عليها السلام) إلي ما كان علي الخوان فدفعته إلي المسكين، وباتوا جياعاً، وأصبحوا صياماً لم يذوقوا إلا الماء القراح.
نبقي مع مولانا الإمام الصادق (عليهما السلام) وهو يروي الواقعة فيقول عما جري من اليوم الثاني من أيام الوفاء بالنذر قال (سلام الله عليه) ثم عمدت [فاطمة (عليها السلام)] إلي الثلث الثاني من الصوف فغزلته، ثم أخذت صاعا من الشعير فطحنته وعجنته، وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد قرص، وصلي علي (عليهما السلام) المغرب مع النبي ( صلي الله عليه وآله)، ثم أتي منزله، فلما وضع الخوان بين يديه وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي (عليهما السلام) إذا يتيم من يتامي المسلمين، قد وقف بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، أنا يتيم من يتامي المسلمين أطعموني مما تأكلون أطعمكم الله علي موائد الجنة.
فوضع علي (عليهما السلام) اللقمة من يده، ثم قال:
فاطم بنت السيد الكريم
قد جاءنا الله بذا اليتيم
من يرحم اليوم فهو رحيم
موعده في جنة النعيم
حرمها الله علي اللئيم
وللبخيل موقفُ الذميم
تهوي به النار إلي الجحيم
شرابها الصديد والحميم
فأقبلت فاطمة (عليهما السلام) وهي تقول:
فسوف أعطيه ولا أبالي
وأوثر اللهَ علي عيالي
أمسوا جياعاً وهم أشبالي
أصغرهما يقتل في القتال
بكربلا يقتلُ بأغتيالِ
لقاتليه الويلُ مع وَبالِ
ثم قال الإمام الصادق (عليه السلام): ثم عمدت فاطمة (عليهما السلام) فأعطته جميع ما علي الخوان، وباتوا جياعاً لم يذوقوا إلا الماء القراح، وأصبحوا صياماً، وعمدت فاطمة (عليها السلام) فغزلت الثلث الباقي من الصوف، وطحنت الصاع الباقي وعجنته، وخبزت منه خمسة أقراص، لكل واحد قرص، وصلي علي (عليه السلام) المغرب مع النبي (صلي الله عليه وآله)، ثم أتي منزله، فقرب إليه الخوان، وجلسوا خمستهم، فأول لقمة كسرها علي (عليه السلام) إذا أسير من أسراء المشركين قد وقف بالباب، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، تأسروننا وتشدوننا ولا تطعموننا!
فوضع علي (عليه السلام) اللقمة من يده، ثم قال:
فاطمُ يا بنت النبي أحمد
بنت النبي سيدٍ مسودٍ
قد جاءك الأسير ليس يهتد
مكبلا في غله مقيد
يشكو إلينا الجوع قد تقدد
من يطعم اليوم يجده في غد
عند العلي الواحد الموحد
ما يزرع الزارع سوف يحصد
فأعطني لا تجعليه ينكدي فأقبلت فاطمة (عليها السلام) وهي تقول:
لم يبق مما كان غير صاع
قد دبُرت كفي مع الذراع
شبلاي والله هما جياع
يا رب لا تتركهما ضياع
أبوهما للخير ذو اصطناع
عبلُ الذراعين طويل الباع
وما علي رأسي من قناع
إلا عبا نسجتها بصاع
قال الصادق (عليه السلام): وعمدوا إلي ما كان علي الخوان فأعطوه، وباتوا جياعاً، وأصبحوا مفطرين وليس عندهم شيء وأقبل علي بالحسن والحسين (عليها السلام) نحو رسول الله (صلي الله عليه وآله) وهما يرتعشان كالفراخ من شدة الجوع، فلما بصر بهم النبي (صلي الله عليه وآله) قال: يا أبا الحسن، شد ما يسوءني ما أري بكم، انطلق إلي ابنتي فاطمة.
فانطلقوا إليها وهي في محرابها، قد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها، فلما رآها رسول الله (صلي الله عليه وآله) ضمهما إليه وقال: وا غوثاه بالله، أنتم منذ ثلاث فيما أري!
فهبط جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد، خذ ما هيأ الله لك في أهل بيتك.
قال: وما آخذ يا جبرئيل؟
قال: «هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ» حتي بلغ «إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا».
يا منكراً فضلَ بني أحمدٍ
كن للّذي تسمعُه مُنصِتا
هل خاتمُ الرّسل سوي جدّهم
أم هَلْ أَتَى في غيرِهم هَلْ أَتَى
ومراده الشاعرمن «هَلْ أَتَى» الآيات التي أشار إليها الإمام الصادق (عليها السلام) في ختام نقله للواقعة المتقدمة وله (عليه السلام) في تتمة حديثه بياناً تفسيراً لهذه الآيات حيث يقول: فهبط جبرئيل (عليها السلام) بهذه الآيات «إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا»، قال: هي عين في دار النبي (صلي الله عليه وآله) تفجّر إلي دور الأنبياء والمؤمنين «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ» يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليها السلام) وجاريتهم «وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا»، يقول: عابساً كلوحاً «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ» يقول: علي شهوتهم للطعام وإيثارهم له «مِسْكِينًا» من مساكين المسلمين «وَيَتِيمًا» من يتامي المسلمين «وَأَسِيرًا» من أساري المشركين ويقولون إذا أطعموهم: «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا».
قال الصادق (عليها السلام): والله ما قالوا هذا لهم، ولكنهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله بإضمارهم، يقولون: لا نريد منكمجَزَاء تكافؤننا به وَلا شُكُورًا تثنون علينا به، ولكنا إنما أطعمناكم لوجه الله وطلب ثوابه.
قال الله تعالي ذكره: «فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً» في الوجوه «وَسُرُورًا» في القلوب «وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً»يسكنونها «وَحَرِيرًا» يفترشونه ويلبسونه.
يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ مسكينهم ثم
يَتِيمًا ويطعمون أَسِيرًا
أطعموهم لله لا لجزاء
أطعموهم ولم يريدوا شُكُورًا
ثمة نقطة مهمة في هذه الواقعة الفريدة والمؤثرة وهي تآزر جميع أفراد هذه العائلة الكريمة ومنهم جاريتهم فضة (رضوان الله عليهما) في تسجيل هذا الموقف الوفائي والإيثاري النادر.
وفي مدحه نزلت هَلْ أَتَى
وفي ولديه وبنت البشير
جَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً
وملكا كبيراً ولبس الحرير
وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ
ويسقيهم من شراب طهور
*******
ثمة دروس كثيرة يمكن إستفادتها من هذه الواقعة نشير الي بعضها في الفقرة التالية وعنوانها هو:
نورعلي نور
قال السيد ابن طاووس في كتابه سعد السعود بعد أن نقل رواية صاحب تفسير الكشاف جار الله الزمخشري لسبب نزول الآيات المتقدمة، قال: في هذه القصة والسورة أسرار شريفة، منها انه يجوز الإيثار علي النفس والأطفال بما لابد منه، ومنها ان يقرض لا يمنع ان يؤثر الانسان به، ومنها ان الواجب من قوت العيال لا يمنع من الصدقة في مندوب، ومنها انه إذا كان القصد رضاء الله تعالي هان كل مبذول، ومنها ان الله تعالي اطلع علي صفاء سراريهم في الاخلاص فجاد عليهم بخلع أهل الاختصاص. ومنها انه لم ينزل مدح في سورة من القرآن كما نزلت فيهم علي هذا الإيضاح والبيان، ومنها ان من تمام الأخلاص في الصدقات ان لا يُراد من الذي يتصدق عليه جَزَاء وَلا شُكُورًا بحال من الحالات، ومنها ان الايثار وقع من كثير من القرابة والصحابة أيام حياة النبي من الثناء فلم ينزل علي أحد مثل ما نزل علي مولانا علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهما السلام).
إنّ الإخلاص لله عزوجل وبمرتبة كاملة النقاء من كل شائبة ومطمع دنيوي هو الذي أثني عليه الله عزوجل فخلد هذا الموقف النبيل رغم أن ما أنفقه آل علي وفاطمة (عليهما السلام) لا يتجاوز في قيمته الظاهرية خمسة عشر رغيفاً من الخبز، وهذا ما ينبه أحد أدباء الولاء وهو يرد قول من إدعي أفضلية بعض المنفقين، حيث يقول رحمه الله:
فإن تزعماه أنفق المال قربة
فإنكما في ذاك تدعيان
وما باله لم يأت في الذكر ذكره
يترجمه للناس وحي القرآن
كما جاءت الآيات في أهل هَلْ أَتَى
بأنهم من ربهم بمكانِ
لإطعام مسكين ومأسور قوته
وقوت يتيم ما له أبوان
فلم شكر الله اليسير وأهمل
الكثير أما بالله تدكران؟!
جعلنا الله وإياكم من أهل مودة آل محمد وعلي (عليها السلام) والمتخلقين بأخلاقهم اللهم آمين، والي هنا ينتهي لقاؤنا بكم في برنامج أيام خالدة وفي حلقته الخاصة بيوم الخامس والعشرين من ذي الحجة الحرام يوم نزول آيات سورة الدهر والثناء الإلهي علي أهل الوفاء بالنذر والمؤثرين عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ شكراً لكم والسلام عليكم.
*******