ويستجيب القرآن الكريم لهذه الصرخة بالعودة إلى المبادئ الأساسية للهوية:
"الاعتدال"، "الكرامة الباطنية"، و"القدوة".
إن تزايد ميل بعض المراهقين والشباب (جيل Z) إلى إقامة احتفالات كالهالوين وعيد الميلاد (الكريسماس) أو المشاركة فيها ليس مجرد تقليد سطحي للثقافة الغربية، بل هو مظهر من مظاهر "فجوة الهوية" العميقة، والبحث عن الانتماء في ظل العولمة الرقمية.
وبناء على المعطيات الاجتماعية وتحليل آيات القرآن الكريم، نلقي نظرة على جذور هذه الظاهرة، ونقدم إطاراً يرتكز على التعاليم الدينية لتشكيل هوية مستقرة ومستقلة.
التحليل الاجتماعي: جذور الانجذاب نحو "الآخر"
ولفهم هذه الظاهرة، لا بد من تحليلها من منظور العلوم الاجتماعية والمواجهة الأخلاقية.
وهناك العديد من العوامل الرئيسية التي تلعب دورا هامان في هذا الأمر:
أولاً: العولمة الرقمية واستنزاف الحدود
اليوم، أصبحت الحدود الثقافية أكثر انتشارا من أي وقت مضى. ووفقاً لإحصاءات نشرتها منصات تحليلية، يقضي المستخدمون الإيرانيون ما يزيد عن ثلاث ساعات يومياً في المتوسط على منصات التواصل الاجتماعي مثل إنستغرام وتيك توك، حيث تُعاد باستمرار نشر صور جذابة وملونة ومثالية للمناسبات. وتُغرس هذه الصور شعوراً بالانتماء إلى "قرية عالمية" تتلاشى فيها الاحتفالات المحلية.
ثانياً: الاستهلاكية وتسويق الفرح
تم تخطيط احتفالات مثل الهالوين وعيد الميلاد (الكريسماس) كمناسبات غارقة في الاستهلاك حيث يُعد شراء الملابس والزينة والهدايا بحد ذاته "تجربة" تسوق مغرية للغاية لجيل الشباب الباحث عن تجارب جديدة. وتُحوّل هذه الاحتفالات "الفرح" إلى سلعة قابلة للشراء؛ وهو أمر ربما لا يُتناول كثيراً في رواياتنا الرسمية والتقليدية.
ثالثًا: فراغ الهوية وضرورة الانتماء
هذا هو العامل الأهم. فعندما تعجز الهويات التقليدية والدينية عن تقديم إجابة جذّابة وهادفة وعملية على الأسئلة الجوهرية للجيل الجديد (من أنا؟ وإلى أي شيء أنتمي؟)، يضطرون للبحث عن بدائل.
وهذا التوجه يعد بحد ذاته صرخة مكتومة من أجل قصة حياة جذابة؛ قصة يكون الجيل الجديد فيها جزءًا من حدث عظيم، عالمي، ويبدو حديثًا.
الهوية في مرآة القرآن الكريم: ما وراء المظاهر والتعمق في الجوهر
ينظر القرآن الكريم إلى مسألة "الهوية" نظرة أعمق من مجرد تحريمات سطحية، ويقدم مبادئ أساسية لبناء شخصية مستقلة ومثالية. وهذه التعاليم حلول جذرية للخروج من متاهة الهوية.
مبدأ "الأمة الوسطية"؛ هوية قائمة على التوازن والقدوة، لا على التبعية
يُحدد الله تعالى دورًا فريدا في منح الأمة الإسلامية مكانة:
«وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» " (سورة البقرة، الآية 143). "
"الأمة الوسطية" تعني أمة لا تغرق في الإفراط ولا في التفريط . وهويتنا في هذه الآية لا تقوم على تقليد الآخرين، شرقًا كان أم غربًا، بل على التوازن والاعتدال، وأن نكون قدوة للعالم.
يجد المراهق المسلم هويته في كونه جزءًا من حضارة عظيمة وعالمية ونموذجًا يُحتذى به، لا في استعارة مظاهر ثقافة أخرى لاكتساب هوية.
مبدأ "التقوى"؛ المعيار الرئيسي للكرامة والشخصية
إن القرآن الكريم لا يربط المعيار الرئيسي لتفوق الإنسان وقيمته بالعرق أو الأصل أو الثقافات الظاهرية، بل يبحث عنه في صفة داخلية وروحية:
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ». (سورة الحجرات، الآية 13).
تُرسي هذه الآية أسس الهوية الدائمة. الهوية الحقيقية تُعرّف بالتقوى، وليس بارتداء زي الهالوين أو إضاءة شجرة عيد الميلاد. وهذا التعليم يُمكّن الجيل الصاعد من اكتشاف قيمته ليس في قبول الثقافة السائدة، بل في قبول الله سبحانه وتعالى وبناء شخصية روحية باطنية. وهذه الهوية هي في الواقع امتداد لشخصية الإنسان، وليست بديلاً عما هو عليه بالفعل.
مبدأ التحذير من التقليد الأعمى
مع أن هذه الآيات الشريفة نزلت ظاهريًا في سياق سياسي، إلا أن مبدأها العام ينطبق أيضًا على الهوية الثقافية:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ» (سورة المائدة، الآية 51).
تُعدّ هذه الآية تحذيرًا جديًا من تبني النماذج والقيم الثقافية والفكرية والوصاية من مجتمعات أخرى.
يعني "التولي" و"الولاية" يعنيان هنا قبول القيادة الثقافية والهوية. وينص القرآن الكريم على أن هذا القبول يؤدي في النهاية إلى الذوبان والاندماج في تلك الثقافة، ويدمر الهوية المستقلة.
من المواجهة إلى الحل: تقديم إطار عملي
لا يتوقف التحليل الرصين عند تحديد المشكلة، بل يقدم حلًا لها أيضًا. فالمنهج القرآني ليس منهجا لتحريم الناس سلبًا، بل هو منهج لفرض قدوة لهم. وهناك عدة نقاط يجب مراعاتها في هذا المنهج:
أولاً: تلبية الحاجة لا كبتها:
إن حاجة المراهقين والجيل الجديد إلى الفرح والاحتفال والتجارب الجماعية والجماليات حاجة طبيعية ومشروعة. ومهمتنا في التطور الثقافي هي تقديم استجابات أغنى وأعمق وأكثر رسوخاً لهذه الحاجة من الأمثلة المستوردة.
هل يمكننا تحويل احتفال مثل "يلدا" إلى مناسبة جذابة للجيل الجديد بروعة وإبداع اليوم؟
هل يمكننا تحويل "مولد أهل البيت (عليهم السلام)" إلى مناسبة فنية وموسيقية واجتماعية؟
ثانياً: تعزيز التفكير الهوياتي بدلاً من تقليد الهوية:
يبدو أن التعليم ووسائل الإعلام ينبغي أن تركز على شرح "أسباب" الهوية الإسلامية الإيرانية، بدلاً من التركيز على المحظورات الظاهرة.
لماذا تُعدّ "الأمة الوسطية" أفضل؟
كيف تمنح "التقوى" الإنسان الثقة بالنفس والاستقلالية؟
هذه أسئلة تحتاج إلى إجابة في الفصول الدراسية، الفضاء الإلكتروني، والبيئة الأسرية.
إنذار الهوية والاستجابة القرآنية
يُعدّ الترحيب بالهالوين، عيد الميلاد وما شابههما إنذارا، ليس للجيل الجديد، بل لصانعي الثقافة والمؤسسات الاجتماعية. وهذه الظاهرة بمثابة صرخة تقول:
"قصتكم لا تهمنا، نحن نبحث عن الانتماء والمعنى".
الاستجابة القرآنية لهذه الصرخة هي العودة إلى المبادئ الأساسية للهوية:
"الاعتدال بدلًا من الإفراط والتفريط (الأمة الوسطية)، الكرامة الباطنية بدلًا من الهيبة الخارجية (التقوى)، وأن نكون قدوة بدلًا من التبعية العمياء".
إذن التحدي الذي يواجهنا ليس بناء جدار أعلى في وجه الثقافة الغربية، بل بناء منزل جميل وقويٍ وغنيٍ بالمعنى، بحيث لا يتركه أبنائنا فحسب، بل يفخرون بدعوة الآخرين إلى منزلهم.