خبراء الصناعة الدفاعية الإيرانية تمكنوا من تحقيق قفزات تقنية مهمة في تصميم وتصنيع صواريخ الكروز، فظهرت مجموعة من النماذج ذات القدرات التشغيلية المتقدمة والأطوال الميدانية المتفاوتة، والتي صارت تشكّل اليوم ركيزة رئيسية في منظومة القدرة الردعية للقوات المسلحة الإيرانية.
تتمتع صواريخ الكروز بمكانة بارزة في العقائد العسكرية العالمية بفضل مزيج من الخصائص الفنية: تكلفة إنتاج منخفضة نسبياً، قدرة على التحليق لمسافات طويلة، سرعات مقبولة ودقة إصابة مرتفعة.
وعلى نحو عام تطير هذه الصواريخ على ارتفاعات منخفضة وبسرعات تجعل من رصدها وتعقبها لدى أنظمة الدفاع الجوي المعادية أمراً صعباً للغاية. ورغم وجود حالات نادرة للكشف والتدمير، تبقى سرية المقطع الطيراني والقدرة على المناورة من أبرز مزاياها التشغيلية.
نماذج بارزة وقدراتها
طوّرت إيران عدداً من نماذج الكروز بعيدة المدى أبرزها: «يا علي»، «سومار»، «هويزه»، «أبو مهدي»، «باوه» و«قدر ۳۸۰»؛ وكل منها يعكس مستوى متقدماً من التكامل بين الدفع والقيادة والأنظمة الإلكترونية.
يا علي .. أول نموذج طويل المدى عُرض أوائل عام 1393، مزوّد بمحرك تربوجت ويُعلن عنه بمدى عملي يقارب 700 كيلومتر، ورأس حربي يقدّر وزنه بنحو 200 كجم. صُمّم أيضاً بنسخة أرضية قابلة للتركيب على منصات إطلاق ومنصات جوية مثل سوخوي-22.
سومار: إنتاج وزارة الدفاع المحلية، كشف عنه عام 1393. يتميز بمدى يقدّر بنحو 2000 كيلومتر ومنصات إطلاق صغيرة ومتنقلة، ما يسهل تفريقها ونشرها ويزيد من صعوبة استهدافها.
هويزه .. عُرضت عام 97، وأُعلن عن مدى يصل إلى 1,350 كيلومتراً مع اختبارات طيران ناجحة حتى 1,200 كيلومتر، وقد أظهرت دقة ضرب عالية في مهام الاختبار.
أبو مهدي .. كشف عنه أول مرة في مرداد 99 وأُدخل للأسطول البحري في 3 مرداد 1402، وهو صاروخ كروز بحري بعيد المدى يزيد مداه عن ألف كيلومتر. يمتاز برأس حربي عالي القوة، وقدرة إطلاق من منصات ثابتة ومتحركة، وأنظمة توجيه تتيح تحديث موقع الهدف أثناء الطيران، فضلاً عن ميزات تخفي ومقاومة للحرب الإلكترونية وإمكانات المناورة على ارتفاعات منخفضة.
باوه .. من إنجازات قوة فضاء الحرس، بمدى يُعلن عنه بنحو 1,650 كيلومترًا. يتميز بمسرِّع وقود صلب ينفصل بعد بدء عمل المحرك النفاث، وأجنحة خارجية تفتح بعد الإطلاق، وتصميم محرك خارجي يختلف عن نماذج سابقة.
قدر ۳۸۰ (النوع L) .. صاروخ بحري مبني على سلسلة باوه، بمدى يتجاوز 1,000 كيلومتر. يستخدم تقنيات ذكاء اصطناعي لتخطيط مسارات طيران منخفضة الارتفاع والالتفاف حول عوائق ورادارات العدو، ورأس حربي مصنوع من مواد عالية الطاقية لزيادة القدرة التدميرية. نظام التحكم مصمم لمقاومة الحرب الإلكترونية، والأجنحة تُفتح تلقائياً بعد الإطلاق دون الحاجة إلى سكة مساعدة.
أنظمة توجيه وملاحة متقدمة
تعتمد صواريخ الكروز الإيرانية توجيهاً متعدد الوسائط يجمع بين: أنظمة الملاحة بالقصور الذاتي (INS)، شبكات ملاحة فضائية مثل GLONASS وربما GPS، ونُظُم مطابقة التضاريس (TERCOM) وربما تقنيات DSMAC أو ما يعادلها لتحسين الدقة من خلال مقارنة مع معالم الطبوغرافيا.
تُشير تقارير إلى تطوير صواريخ مستقبلية بنُظم ملاحة متكاملة تجمع GPS وGLONASS وTERCOM وINS وDSMAC لتعزيز دقة الضرب والقدرة على العمل في بيئات مضادة للرادار والحرب الإلكترونية.
قدرات تشغيلية وتكتيكية
تُصمم هذه الصواريخ لتعمل كــ«قناصات بحرية» قادرة على إصابة أهداف استراتيجية من مسافات بعيدة، وتهديد السفن والحاملات والطرادات عبر ضربات دقيقة ومفاجِئة. ميزات مثل الإطلاق من منصات متحركة، التحديث اللحظي لإحداثيات الهدف أثناء الطيران، تحليق منخفض الارتفاع، واستخدام تقنيات استشعار متقدمة (سِكِرّات نشطة/سلبية)، كلها تزيد من قابلية البقاء والتأثير في بيئة قتالية معادية.
بعض النماذج توظف عناصر من الذكاء الاصطناعي في برمجيات تخطيط المسار لتجاوز العقبات والطيران عبر نقاط وسيطة والاقتراب للهدف من زوايا متعددة، ما يزيد من فرص الالتفاف على نظم الدفاع الجوي والحرمان من رد فعل فعّال للعدو.
الأبعاد الاستراتيجية
وجود منظومة كروز بعيدة المدى في الترسانة الإيرانية يضيف عمقاً دفاعياً واسعاً ويمنح اتخاذ القرار العسكري خيارات رداً متباينة النطاق والدقة. هذه المنظومات، بقدرتها على التحليق الخفي والاصابة الدقيقة، تشكل جزءاً من «القوة الضاربة الذكية» المعلنة، وتبعث رسالة استراتيجية واضحة إلى القوى الإقليمية والدولية: أي عدوان بري أو بحري قد يواجه ردّاً دقيقاً وبعيدة المدى.
كما تجسد هذه الإنجازات تحوّلاً في قدرة إيران على الاعتماد على الذات في مجالات الدفع والأنظمة الإلكترونية والاندماج المعقَّد بين مكونات الدفع والقيادة والتحكم، ما يضع أدوات ردع جديدة في يد صانعي القرار العسكري الإيراني.