باعتبارهما دولتين متجاورتين تتمتعان بتشابهات دينية وثقافية وجغرافية عديدة، تعود إلى سنوات طويلة وقد خلقت بيئة مواتية للتطور المتزايد للعلاقات بين البلدين.
ولا تقتصر هذه العلاقات على الحقبة المعاصرة وما بعد صدام، بل إن القواسم التاريخية والدينية والاقتصادية والجغرافية المشتركة ربطت عملياً بين البلدين، وخلقت علاقات عميقة بينهما على كافة المستويات.
وفي مرحلة ما بعد صدام، تعتبر طهران واحدة من أهم اللاعبين على الساحة السياسية العراقية وداعمة لعملية الاستقرار السياسي في البلاد، ويحاول الطرفان استغلال هذه العلاقات الثنائية الجيدة لتعزيز الاستقرار الإقليمي والحد من التهديدات المشتركة مثل الإرهاب والتدخل الأجنبي.
تتمتع الدولتان إيران والعراق بالعديد من عناصر التقارب التي ترتكز على المكونات التالية:
التبادلات الاقتصادية
بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 13 مليار دولار في عام 2023، ويستمر العراق في المرتبة الأولى في الصادرات الإيرانية غير النفطية، والتي لديها القدرة على الارتفاع إلى أكثر من 20 مليار دولار سنويا.
مجتمع مترابط
تشكل العلاقات بين الشعوب عبر الطبقات الاجتماعية أحد أهم العناصر في تطوير العلاقات بين البلدين. وفي عام 2024 دخل أكثر من 4 ملايين إيراني إلى العراق لزيارة الأماكن المقدسة، وفي المقابل دخل 2.7 مليون مواطن عراقي إلى بلادنا لأغراض السياحة والحج. إحصائية تمثل ما يقارب 47% من إجمالي السياح الأجانب.
الطلاب والجامعات
يدرس في إيران حالياً أكثر من 90 ألف طالب عراقي، وهم يشكلون نسبة كبيرة من الطلاب الدوليين في إيران، كما أنشأت أربع جامعات إيرانية كبرى فروعاً لها في العراق. ولا تشكل هذه العلاقات الأكاديمية مقدمة لتعزيز الدبلوماسية العامة الإيرانية في العراق فحسب، بل تعمل أيضاً على تعزيز القيم الثقافية للمجتمع الإيراني ومثل الثورة الإسلامية بين النخبة العراقية. ومن المتوقع أن يصل هذا العدد إلى 150 ألف طالب.
الثنائيات الكاذبة
على عكس الثنائيات الائتمانية القائمة في المنطقة، مثل الشيعة والسنة أو الإسلام السياسي وغير السياسي، ينبغي عملياً تقسيم السياسة الخارجية لدول المنطقة إلى نوعين أساسيين: أ- سياسة تركز على فرص التقارب الإقليمي. ب- سياسة تركز على وجود وتدخل ومساعدة القوى الأجنبية المتمركزة في المنطقة.
وفي ظل هذه الظروف فإن اتباع إيران والعراق لسياسة داخلية ومستقلة في الساحة السياسية الإقليمية والدولية يمكن أن يساهم في زيادة التقارب بين البلدين وتقاربهما الإقليمي.
مشروع إعادة الإعمار الضخم
بعد الانتصار على داعش، وتعزيز الاستقرار السياسي والأمني في العراق، وتحسين الظروف الاقتصادية المتأثرة بزيادة صادرات النفط، سعت بغداد إلى إعادة بناء البنية التحتية وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين.
ونظراً للخبرة القيمة التي تتمتع بها إيران في عملية إعادة الإعمار بعد الحرب المفروضة، والقدرة العالية والجودة المرغوبة للصناعات المحلية الإيرانية، فإن بلدنا سيكون قادراً على لعب دور إيجابي في هذا الاتجاه.
التقارب وتنظيم العلاقات بين البلدين
في السنوات التي أعقبت داعش، خرج العراق من عملية عدم الاستقرار واتخذ خطوات نحو استقرار وضعه الإقليمي. ومن أجل تخفيف التوترات وتعزيز الأمن الإقليمي، لعب دور الوسيط بين إيران والدول العربية.
وفي هذا الإطار، لم يستضيف العراق جولات عديدة من المحادثات لتطبيع العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية فحسب، بل قام أيضاً بنقل رسائل بين إيران والقوى الغربية.
ويحمل هذا النشاط رسالة مفادها أن العراق، بدلاً من أن يصبح مركزاً للصراع، قادر على لعب دور الوسيط في الصراعات الإقليمية والدولية. وإن الاستمرار في لعب هذا الدور يتطلب من العراق أن يستمر في سياسته المستقلة تجاه القوى العظمى.
التعاون الأمني الاستراتيجي المتمركز حول الدولة
ومنذ تسعينيات القرن الماضي ثم عام 2003، أصبحت منطقة غرب آسيا مركزاً للتدخل وتواجد القوى الإقليمية، وخاصة الولايات المتحدة، وحاولت واشنطن توسيع نفوذها الأمني والسياسي في البلاد من خلال احتلال العراق ومتابعة مصالحها من خلال هذه القناة.
وفي ظل الوضع الحالي، أصبحت طهران وبغداد قادرتين على العمل بمثابة "منطقة عازلة" لبعضهما البعض، فتدفعان التهديدات ضد كل منهما وتمنعان انتشار الإرهاب في المنطقة.
ويوفر ظهور هذه المنطقة العازلة الأساس لتشكيل إطار أمني ينطوي على تعزيز المبادرات الداخلية بما يتماشى مع تصورات ومصالح الحكومات الإقليمية.
ويرفض هذا الإطار الأمني أي تدخل إقليمي غير بناء، ويؤكد على القدرة الذاتية لدول المنطقة على حل التحديات فيما بينها. وعلى عكس الخطط المشابهة مثل صفقة القرن وخطة مجلس التعاون الخليجي، فإن هذا الإطار هو مبادرة إقليمية شاملة تأخذ في الاعتبار مصالح الدول الإقليمية والقوى العابرة للحدود.
إن تشكيل قوة مشتركة لمكافحة الإرهاب، وقيادة إيران والعراق في دعم القضية الفلسطينية ومواجهة الكيان الصهيوني، والاستفادة من القدرات الدبلوماسية لبعضهما البعض، والتحرك نحو مبادرة الردع الجماعي، من أهم القدرات لتحقيق التقارب المتزايد بين إيران والعراق في إطار الأمن الإقليمي الجماعي، بالاعتماد على التعاون الأمني الثنائي بين البلدين.
إن إنشاء منصة للتعاون الأمني المشترك بين الجانبين لن يساهم بشكل كبير في تحسين الأمن الإقليمي فحسب، بل سيعمل أيضاً على تنظيم العلاقات الأمنية بين البلدين على مستوى الدولة.
ورغم التعاون الأمني والإنجازات بين طهران وبغداد خلال العقدين الماضيين، مثل محاربة الاحتلال الأميركي ومواجهة إرهاب داعش، إلا أن علاقات طهران الأمنية مع العراق اقتصرت على الكيانات غير الحكومية وجماعات المقاومة، وأن تحول التعاون الثنائي ودوره في تشكيل العلاقات الإقليمية يتطلب الارتقاء به إلى علاقات أمنية متمركزة حول الدولة.
وعلى أية حال فإن ما يبدو واضحاً ومؤكداً هو أن العلاقات بين إيران والعراق لا تقتصر على العلاقات الثنائية بين الطرفين، بل تعتبر مركز تشكيل التوازن الإقليمي، والتنظيم الحكيم لهذه العلاقات يمكن أن يحولها إلى محور تشكيل السلام والأمن الإقليميين.