بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله آناء الليل والنهار، وأشرف الصلاة والسلام على النبيّ المصطفى المختار، وعلى آله الأوصياء الأبرار. أيّها الإخوة الأحبة الأكارم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم في لقائنا المتجدّد معكم، وآية أخرى عنت عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام، وقد نزلت بإحدى فضائله الجمة الوفيرة، تلك هي قول الله جلّ وعلا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ"(التوبة:۱۱۹) وهي الآية التاسعة عشرة بعد المئة من سورة التوبة المباركة، هبطت نداءً سماويّاً للمؤمنين الذين عاشوا الإيمان عقيدة وشعوراً، ودعوة إلهية مفتوحة للارتقاء إلى سلّم الطاعة لله تبارك وتعالى، كيما تتحقق حقيقة التقوى على مستوى الفعل والموقف. والمعية إخوتنا الأفاضل، في قوله جلّ وعلا: "وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ"، إنما يراد بها الاتباع، فمن يا ترى أولئك الذين دعا الله المؤمنين أن يكونوا معهم؟.
في مؤلفه (ما نزل من القرآن في عليّ) روى الحافظ أبو نعيم بسند ينتهي إلى ابن عباس أنه قال في ظلّ قوله تعالى: "وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ"، هو عليّ بن أبي طالب خاصّة. وبسند آخر ينتهي إلى جعفر بن محمّد أنّه قال عليه السلام: يعني مع محمّد وعليّ صلّى الله عليهما وعلى آلهما. فيما روى عن ابن عبّاس أيضاً السيوطيّ في (الدّر المنثور) قوله في ظلّ الآية: "وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ"، مع عليّ بن أبي طالب، ومثل ذلك روى ابن عساكر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، وذلك في (تاريخ دمشق). كذلك روى عالم الأحناف الخطيب الخوارزميّ في كتابه (المناقب) أن ابن عباس قال في تعريف الصادقين في الآية: هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
وبمضمون ذلك عن غير ابن عبّاس، أخرج ابن حجر في (الصواعق المحرقة)، والكنجي الشافعيّ في (كفاية الطالب)، والحموينيّ الجوينيّ الشافعيّ في (فرائد السمطين). وعن ابن مردويه أخرج الحافظ القندوزي الحنفيّ في كتابه (ينابيع المودّة) أنّ ابن عباس، قال في تفسير الآية الشريفة: كونوا مع عليّ. وأخرج نحواً من ذلك الكثير من أصحاب التفسير والحديث والتاريخ، منهم: الحسكانيّ الحنفيّ راوياً عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال: أمر الله أصحاب محمّد بأجمعهم أن يخافوا الله، ثمّ قال لهم: "وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ"، يعني محمّداً وأهل بيته. ووافقه القندوزيّ في رواية أخرى عن ابن عبّاس قوله في تعريف له: الصادقون في هذه الآية: محمّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم، واهل بيته. فيما كتب ابن عساكر في ترجمة الإمام عليّ من (تاريخ مدينة دمشق) عن الباقر والرضا رضي الله عنهما: الصادقون هم الأئمّة من أهل البيت. كذلك كتب الحموينيّ في (فرائد السمطين) بإسناده عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام في قوله تعالى: "وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ"، يعني مع آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفي كتابه (الدرّ الثمين) كتب الحافظ البرسيّ في بيان له: ثمّ جعل الله عليّاً وعترته هم الصادقين، وأمر عباده أن يكونوا معهم فقال: "وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ"، روى عبد الله بن عمر عن السّدّيّ عن ابن عبّاس قال: الصادقون عليّ بن أبي طالب وعترته.
بعد هذا أيّها الإخوة الأعزة، أنّ آية الصادقين نازلة في الإمام عليّ خاصة، وهي شاملة لأولاده الأئمة المعصومين عامّة، لرواية ثقات الفريقين، فمن الخاصة روى ذلك الكلينيّ في (الكافي)، والصدوق في (إكمال الدين)، وجميع مفسّري الشيعة. ومن العامّة: الحافظ أبو نعيم، وسبط ابن الجوزيّ في (تذكرة خواصّ الأمّة)، عن ابن عبّاس أن آية الصادقين نزلت في عليّ عليه السلام، ومعناها: كونوا مع عليّ وأهل بيته وعليّ سيّد الصادقين. وفي (تذكرة الخواصّ) قال مجاهد: الخطاب لعليّ، والآية في حقه على وجه التأكيد. وهنا يستدلّ أصحاب الفهم من الآية المباركة استدلالات عديدة، من أهمّها: أولاً، أنّ زمان التكليف لا يخلو من إمام صادق معصوم يجب على الناس أن يكونوا معه، يتابعونه ويشايعونه، وإلا لسقط التكليف. ثانياً، أنّ الهويّة القرآنيّة للصادقين تشتمل على صفات عليا مثلى من خلال الآيات الشريفة، على رأسها: الإيمان الأكمل، والتقوى الأتمّ، والوفاء بالعهد، والاستقامة والثبات على المبدأ، وهذه الصفات بمراتبها العالية مجتمعة لا يمكن توفرها في غير المعصوم الصادق الذي ذكرته آية الصادقين، والمراد بالصدق فيها مطلق الصدق في: القول والفعل، والإيمان والتقوى، والعهد والجهاد، ممّا يؤهّل للإمامة الإلهيّة التي لا يصلح لها إلاّ من كان على عين الله تعالى وعنايته ورعايته واختياره. وثالثاً، لابدّ للمسلمين من التعرّف على الصادقين من هم، ليكونوا معهم. قال شرف الدين الأسترآباديّ في كتابه (تأويل الآيات الظاهرة): إنّ الله سبحانه أمر عباده المكلفين أن يكونوا مع الصادقين، ويتبعوهم ويقتدوا بهم. والصادق هو الذي يصدق في أقواله وأفعاله، ولا يكذب أبداً، وهذه من صفات المعصوم. وقال العلامة الحلّيّ في كتابه (منهاج الكرامة ودلائل الإمامة): تحت عنوان: البرهان الخامس والثلاثون، لقد أوجب الله علينا الكون مع المعلوم منهم الصّدق، وليس إلا المعصوم، لتجويز الكذب في غيره، فيكون هو عليّاً عليه السلام.
أجل أيّها الإخوة الأفاضل، فلمّا كان هناك تكليفٌ باتباع الصادقين، فلابدّ من أن يكون هناك من صادقين، ثمّ لابدّ من التعرّف عليهم وقد ذكرتهم الآية الكريمة ودعت إلى أن يكون أهل الإيمان والتقوى معهم، نعم معهم تعني بالضرورة لا مع غيرهم. وفقنا الله جميعاً إلى ذلك برحمته وتوفيقه ورأفته، وصلّى الله على حبيبه المصطفى وعترته.