لا فرق بين الأمس واليوم إلا بالمشاهد الحية، فجرائم الأمس وُثقت خطياً وعبر التواتر وبقيت من دون محاسبة. أما جرائم اليوم، فتُوثق عبر الصوت والصورة، ومباشرة على الهواء من موقع الإبادة، ولكن، وعلى الأرجح، أنها ستبقى من دون محاسبة أيضاً ما دام هناك صوت واحد لمسؤول، أكان غربياً أم عربياً، يشكك في ارتكاب إبادة جماعية بحق الفسطينيين أو يبررها بحق الدفاع عن النفس، فكيف يكون الحال إذا كان هذا الصوت هو الصوت الأميركي الذي يمتلك حق الفيتو ولا يتردد في استخدامه في كل الهيئات الدولية؟
حتى الساعة، لا تعير "إسرائيل" أي اهتمام لأي صوت مندد لأفعالها. الصوت الإسرائيلي الطاغي –الذي كان وسيبقى- يمكن تلخيصه بما أورده يوماً ما رئيس معهد الدراسات اليهودية في سانت بول في ولاية مينيسوتا الأميركية الحاخام المعروف مانيس فريدمان أثناء سؤاله عن كيفية معاملة اليهود لجيرانهم العرب، إذ قال إنه لا يؤمن بما يسميه "الأخلاقيات الغربية" التي تنطوي في رأيه على تجنب قتل المدنيين، ومنهم الأطفال، وتدمير المقابر والأماكن المقدسة.
الطريقة الوحيدة لخوض حرب أخلاقية -في رأي الحاخام- هي الطريقة اليهودية: "اقتل الرجال والنساء والأطفال وحتى المواشي ودمّر أماكنهم المقدسة". ينشر الحاخام خطأه وجنونه مرتين؛ في الأولى، يريد لنا أن نسلم بأن منظومة الأخلاق الغربية تتجنب سلوكيات الحرب الدامية. وفي المرة الثانية، يتبجّح بتصدير صورة القتل المجنون "على الطريقة اليهودية".
ويضيف هذا الحاخام الذي ينتمي إلى أكبر المنظمات اليهودية "حباد" بمؤسساتها المختلفة التي تعد 3500 مؤسسة، والتي تنتشر في أكثر من دولة: "إن العيش وفقاً لقيم التوراة سيجعلنا نوراً للأمم التي تعاني الهزيمة بسبب الأخلاق الكارثية من اختراع الإنسان".
نحن باختصار أمام ترجمة فعلية ومتواصلة لأيديولوجيا قديمة ومتجددة قائمة على إبادة الآخر. والآخر هنا هو الفلسطيني للاستحواذ على أرضه، وهي في رأيهم "أرضهم الموعودة".
لذلك، لا عجب في أن نسمع مقترحات إسرائيلية كإقامة جزيرة صناعية لإيواء الفلسطينيين (وزير خارجية "إسرائيل") وتدمير جميع منازل الغزاويين، لأن من حق مستوطني غلاف غزة رؤية البحر (مؤسسة جمعية "نحلا" الاستيطانية الإسرائيلية) أو مقترحات أخرى كضرورة العودة إلى واقع ما قبل 2005، ما جعلنا نتابع مؤتمر عودة الاستيطان في غزة الذي انعقد في القدس مؤخراً، وجعلنا نشاهد "مزحة" المنشورات لشركة مقاولات إسرائيلية تعلن فيها عن عطاءات بناء وحدات استيطانية حملت شعارَ "بيت على الشاطئ، هذا ليس حلماً".
قد توحي هذه المقترحات بالاستفزاز، ولكن الأمر أعمق من ذلك، فإذا دققنا أكثر، يمكن ملاحظة رؤية الإسرائيلي لهذه الأرض على أنها عقار لا وطن، بخلاف ما يدعي من "أحقية دينية"، وإلا ما كنا لنسمع هذا الكم من التذمر من الحياة غير الآمنة ومن مستوى العيش، وما كنا لنرى مشهد الطوابير في مطار بن غوريون في ترجمة حسية لمفهوم "الهجرة المعاكسة" التي تصاعدت تحديداً في الأعوام الأخيرة على خلفية التوترات الأمنية والسياسية المتزايدة على حد سواء. في المقابل، لا يسعنا إلا أن نستحضر محاولة الغزاويين المتكررة للعودة إلى شمالي القطاع رغم الدمار وصوراً لجلسات عائلية على أنقاض المنازل المدمرة.
إذاً، هي الأرض التي يتمسك بها الفلسطينيون، لا العقار، ما يجعل مقاربة أستاذ علم الاجتماع ساري حنفي تعود إلى الواجهة، فهو يقرأ الصراع من زاوية الإبادة المكانية spacio-cide بدل الإبادة الجماعية، ويرى أن المشروع الكولونيالي الاستيطاني الصهيوني ليس مشروع إبادة جنس، بل هو مشروع إبادة المكان، ذلك أن الاستعمار يستهدف الأرض لكي يجعل الترحيل "الاختياري" أمراً محتوماً، وهو يستهدف بشكل أساسي المكان الذي يعيش فيه الشعب الفلسطيني. ولأن الأرض هي الحياة، بحسب قول باتريك وولف، أو على الأقل هي أمر ضروري للحياة، فإن الصراع على الأرض كثيراً ما يكون صراعاً على الحياة.
في فلسطين، وفي كلّ الأوطان التي يعيش فيها سكانها الأصليون، لا يمكن فصل الأرض عن الإنسان، ولا يمكن أن تتحول الأرض إلى عقار أو أن تخضع لمفاضلة الاختيار مع أماكن أخرى في العالم.
العلاقة بين الفلسطيني وأرضه تكرست في الأدب (باعتبار المكان جزءاً من الذاكرة التي لا تتجزأ). وردت هذه العلاقة في أفكار الحركة الصهيونية نفسها، التي حذر عدد من أعضائها في المؤتمرات الأولى من عدم القدرة على إبادة العلاقة بين المكان والإنسان، حتى لو تم تجريف البنية التحتية كاملة.
نعم، لقد جرفت "إسرائيل" البنية بالكامل لإجبار الغزيين على المغادرة، فدمرت المنازل والوحدات السكنية والمدارس والجامعات، وحتى المراكز الصحية والمستشفيات، وأصابت القطاع الصحي، كل ذلك في محاولة منها لجعل التهجير أمراً اختاره الغزيون، ولكنَّ الفلسطينيين جربوا الرحيل مع آمال العودة القريبة، وهذا ما لن يجربوه ثانية!
رانا أبي جمعة - موقع الميادين