•الولادة المباركة
وُلد سيّدنا محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أكثر من ألف وأربعمئة وخمس وتسعين سنة تقريباً، فيما يُعرف بعام الفيل، في شهر ربيع الأوّل، في 12 أو 17 ربيع الأوّل على اختلاف الأقوال.
وهذه الولادة المُباركة كانت المقدّمة الطبيعيّة لولادة الرسالة الإلهيّة الخاتمة وإعلانها، والتي لا نسخ بعدها ولا تَعديل ولا تبديل، فـَ «حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وحَرَامُه حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(1)، وكانت كذلك المقدّمة الطبيعيّة لولادة جديدة لحياةٍ إنسانيّةٍ حقيقيّة، لأجيالٍ ستخرج من الظلمات إلى النور، ولولادة أمّةٍ باقيةٍ خالدةٍ إلى يوم القيامة أيضاً.
•المعجزة الخالدة
كُلّنا يَعرف بِأنّ للأنبياء العظام، كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، مُعجزاتهم التي شَهدها الناس الذين عاصروهم بأُم العين، ثُمّ حفظتها الكتب المقدّسة، وخصوصاً القرآن الكريم، وكتب التاريخ والروايات، فوصلت إلى جميع الناس على اختلاف أديانهم.
وقد أتى رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزات متنوّعة أيضاً، شاهدها الناس في زمانه، ولم نَشهدها نحن بأعيننا، وإنّما نقلتها إلينا الروايات وكتب التاريخ، ولكن لرسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم معجزةً خالدةً وباقيةً إلى يوم القيامة، تَشهدها كلّ الأجيال في كلّ الأزمنة والأمكنة، هي كتابه المقدّس؛ القرآن الكريم، الذي أنزله الله على قلبه.
•وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
إنّ بقاء هذا الكتاب المقدّس لدى نحو ملياري مسلم محفوظاً بهذا الشكل الدقيق والعجيب، بكلماته وآياته وسُوَرِهِ دون أيّ تحريفٍ أو تزويرٍ أو تعديلٍ منذ أكثر من ألف وأربعمئة وخمسين سنة، هو بحدّ ذاته معجزة، وهو مصداقٌ للوعد الإلهيّ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9)، وذلك بالرغم من كلّ الدواعي والدوافع العقديّة والمذهبيّة والسياسيّة لتحريفه، سواءٌ من داخل الدائرة الإسلاميّة أو من خارجها. وهذا دليل على الصيانة الإلهيّة والحفظ الإلهيّ لهذا الكتاب.
وهذا القرآن أيضاً هو الذي ما زال يَتحدّى البشر، منذ نزوله وإلى اليوم، أن يأتوا بمثله، أو أن يأتوا بعشر سورٍ أو بسورةٍ واحدةٍ من مثله، وسوف يبقى هذا التحدّي قائماً إلى قِيام الساعة.
•23 سنة لإنجاز تحوّل كبير
إنّ هذا القرآن الذي ما زال يَنبض بالحياة ويُخرج الناس من الظلمات إلى النور، هو أعظم ما جاء به صاحب الذكرى نبيّنا وسيّدنا رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي استطاع، بفضل دعوته وجهوده وجهاده، أن يحقّق تحوّلاً عميقاً وهائلاً في مجتمع شبه الجزيرة العربيّة، حيث كانت حركته صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته التي امتدّت على نطاق واسع في تلك البقعة الجغرافيّة وشملت القبائل والعشائر، ومجموعة كبيرة من الأمصار والمدن مثل مكّة ويثرب (المدينة المنوّرة)، والطائف وصولاً إلى اليمن وما فيها من مدن وحضارة وملوك سابقين.
ولو دقّقنا في أحوال ذلك المجتمع قبل ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقبل بعثته، وبماذا كانوا يؤمنون ومن يعبدون، وبمستوياتهم العلميّة والثقافيّة لناحية القراءة والكتابة ومستوى المعرفة، وبمنظومة القيم الحاكمة في ذلك المجتمع، وعاداتهم وتقاليدهم وأحوالهم الاجتماعيّة والمعيشيّة، ومستويات الفقر والحرمان والطبقيّة، إلى أوضاعهم الأمنيّة والحروب وصراعات القبائل والعشائر والزعامات، لوجدنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يأتِ لِيعالج جانباً واحداً من جوانب حياة هؤلاء الناس، وإنّما الجوانب كلّها، وفي مقدّمها البُعد العقديّ والإيمانيّ والمعرفيّ والثقافيّ والأخلاقيّ والسلوكيّ.
ثمّ لو دَرسنا حالة هذا المجتمع بعد بعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته وجهوده وجهاده، لوجدنا أنّه صلى الله عليه وآله وسلم أحدث فيه تحوّلات عميقة ومهمّة جدّاً خصوصاً في الجانب الإيمانيّ والعقديّ، إذ نَقلهم من عبادة الأصنام إلى عبادة الإله الواحد، وكذلك أحدث تحولاتٍ في علومهم وثقافتهم ومنظومة القيم الخاصّة بهم، وفي النظرة إلى الإنسان الآخر وإلى المرأة وأتباع الديانات الأخرى، وفي موازين التفاضل بين الناس، وفي العادات والتقاليد والانضباط والسلوك والقيم الأخلاقيّة.
إنّ هذا التحوّل الإنسانيّ الهائل الذي حصل في شبه الجزيرة العربيّة، وشكّل القاعدة الرئيسة لانطلاقة هذه الأمّة ووصول صوتها ورسالتها إلى العالم كلّه؛ لِتكون قاعدة التغيير العالميّ، أنجزه رسول الله محمّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم صاحب الذكرى. واللافت جدّاً هو أنّ هذا الإنجاز تَحقّق خلال ثلاث وعشرين سنة فقط، وهي فترة قصيرة يصعب على أيّ أحد أن يُحدث فيها تغييرات هائلة كهذه، خصوصاً على المستوى العقديّ والثقافيّ والسلوكيّ والقيميّ وما شاكل، ولكن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صَنعه وأوجده، وأَسّس هذه القاعدة الإيمانيّة الإنسانيّة؛ لتبقى إلى قيام الساعة.
•معشوق المسلمين
يحمل جميع المسلمين، طوال التاريخ وإلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، من الحبّ للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والعشق والتقدير والاحترام والتقديس، ما لا يَحملونه لأيّ إنسانٍ آخر، مع محبّتهم وتقديرهم وتقديسهم لكلّ الأنبياء والرسل والأولياء والأئمّة عليهم السلام والصالحين والأخيار.
وقد يَختلف المسلمون فيما بينهم في قضايا فكريّة ذات طابع عقديّ أحياناً، وفي الأحكام الشرعيّة، وقضايا الحلال والحرام، وتقييم أحداث وشخصيّات التاريخ الإسلاميّ، وقد يَختلفون في عصرنا هذا حول قضايا اجتماعيّة وسياسيّة كبرى، ولكن ثمّة مسائل وقضايا إجماعيّة لم يَخرج عنها المسلمون طوال التاريخ، ولا يمكن أن يخرجوا عنها إلى قيام الساعة، من أهمّها إيمانهم بمحمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبرسالته، وبنبوّته، وبعظمته، وبمكانته، وبمقامه، وهم يَنظرون إليه بوصفه خاتم النبيّين، فلا نبيّ بعده، وأنّه سيّد المرسلين، وأنّه أفضل الخلق، وسيّد الكائنات، والإنسان الأكمل والأعظم، وأقرب المخلوقات إلى الله سبحانه وتعالى، وأحبّهم إليه تعالى وأعزّهم عنده.
مع هذا الإيمان، يُخالط حُبّه دماءهم ولحمهم وكيانهم وأجسادهم وأرواحهم وعقولهم وقلوبهم، وهم يُعظّمّونه في الدنيا، ويُؤمنون بعظمته وبمكانته المميّزتين في الآخرة.
وأبارك لكم ذكرى ميلاد سيّد المرسلين وخاتم النبيّين أبي القاسم محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم،وولادة حفيده الجليل والعظيم الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام.
وأسأل الله أن يجعلنا من المؤمنين به ومحبّيه والسائرين في دربه والملتزمين بتعاليمه، وأن يرزقنا شفاعته يوم القيامة، وأن يحشرنا معه ولا يفرّق بيننا وبينه طرفة عين أبداً في الدنيا وفي الآخرة، وأن يعيد هذه المناسبة عليكم جميعاً بالخير والبركة والنصر والسلامة والصحّة والعافية، وكلّ عام وأنتم بخير.
سماحة السيد حسن نصر الله
------------------------
1.الكافي، الشيخ الكليني، ج1، ص 58.