البث المباشر

تمايز الثقافة الاسلامية عن الثقافات الغربية -۲

السبت 2 فبراير 2019 - 09:59 بتوقيت طهران

الحلقة 216

تعني الثقافة مجموعة من المعارف والعقائد والفنون والاخلاق والقوانين والعادات التي تميز امة من الامم عن سواها، الثقافة ليست مجموعة من الافكار والمعلومات بل نظرية في السلوك وطريقة حياة يتمثل بالطابع العام الذي ينطبع عليه شعب من الشعوب، وهي من العناصر المميزة لمقومات الامة التي تميز بها عن غيرها من الجماعات فيما تعتمد عليه من العقائد والقيم والسلوك والمقدسات والتجارب والقوانين، من هنا يكون لكل مجتمع ثقافته الخاصة التي تحدد شخصيته، ومن هنا ايضاً تختلف الثقافة الاسلامية اختلافاً جوهرياً عن الثقافة الغربية لاختلاف مقومات كل منهما، فالثقافة الاسلامية تستمد كيانها من القرآن الكريم واللغة العربية وتراث الامة وتاريخها، لكن ثقافة الغرب هي من نتاج الفكر اليوناني والقانون الروماني واللغة اللاتينية وما وصل اليها من تفسيرات المسيحية، وقد اشرنا في لقاء الماضي من البرنامج الى عدد من الفوارق الجوهرية بين ثقافة العالم الاسلامي الاصيل وثقافة الغرب على ما فيها من تعدد وتنوع وايضاً بين روح الجانب الديني الانساني والاخلاق والعلم الحيوي في الثقافة الاسلامية، على حين تؤمن الثقافة الغربية بالمادي الميكافيلي الذي يلغي الدين والقيم ويدفع الانسان نحو الغرائز الحيوانية الفردية ونحو استعلاء الرجل الابيض وتبرير الاستعمار.
وغير هذا وذاك فأن الثقافات الغربية تدعو الى اطلاق الحياة وتحريرها كاملاً من كل القيود وقد امسى طابع الاباحية هو ابرز الطوابع لمجتمعاتها بالاضافة الى الالحاد الذي هو سمة ثقافتها، ويستتبع ذلك تعرية كاملة للنفس الانسانية واعلاء جانب الغرائز والملذات واطلاقها الى اخر مدى، والعمل على كشف الجوانب الحيوية والمادية والجنسية وتبرير حريتها وتوجيه كافة المفاهيم والقيم لخدمة هذا الاتجاه، وتختلف الثقافة الاسلامية اختلافاً اساسياً مع الثقافات الغربية بهذا المعنى، وترى ان لكل حرية ضوابط وان المجتمعات لا تستطيع ان تخرج عن مقومات اساسية قائمة على الاخلاق وترى ان هذا فيه حماية للانسان من الانهيار والانحلال وترى ان الانسان القوي الصادق هو انسان الثقافة الاسلامية وان نظرة هذه الثقافة متفتحة خصبة لكن لا تفك العنان للغرائز ولا توقع الانسان في مستنقع اللذات والشهوات.
ولا ريب ان اوجه الاختلاف في الثقافة الاسلامية والغربية عميقة جداً وبهذا لا يكون معنى للدعوة الى وحدة الثقافة العالمية، تلك الدعوة التي تطلقها بعض القوى لاحتواء الثقافة الاسلامية والسيطرة عليها وصهرها في الثقافة المسيطرة الان في العالم. قد تلتقي الثقافة الغربية والثقافة الماركسية في جذور متعددة ذلك ان الفكر الماركسي ليس الا فكراً غربياً انبثق من الفكر الليبرالي وجاء رد فعل لبعض تحدياته، وقد نجد بين بعض الثفاقات الشرقية والثقافات الغربية جذوراً وصلات ولكن عندما يتصل الامر بالثقافة الاسلامية فأن الامر يختلف ويظهر مجال التباين وعمق الفوارق، وربما تحدث الكثير عن الصلة بين الفكر الاسلامي الذي ابدعه المسلمون والفكر اليوناني ويظن انها يمكن ان تكون ركيزة لقيام عملية انصهار بين الفكر الاسلامي الحديث وبين الفكر الغربي لكن محاذير كثيرة تقوم في وجه هذا النوع من التفكير، فما هي هذه المحاذير؟
اولاً ان الفكر الاسلامي لم يستسلم مطلقاً وخلال اكثر من قرنين كاملين للفكر اليوناني ولا لما ترجم من الفكر الفارسي او الهندي القديم، فقد واجه العلماء المسلمون هذا الامر بقوة وكشفوا عن الخلافات بين منطلق التوحيد ومنطلق الوثنية، وحين حاول بعض الفلاسفة امثال الكندي والفارابي وابن رشد اقامة جسور بين الفكرين ما لبثت هذه الجسور ان انهارت وكشفت عن عدم قدرتها على ادخال الفكر الوثني في اطار الفكر الاسلامي او احتواءه للفكر الاسلامي، وقد ظل الفكر الاسلامي يقاوم بشدة حتى استصفى اصوله واستعاد تماسكه وكشف عن اصالته وامتص كل ما وجده صالحاً نافعاً دون ان يتأثر في كيانه او طابعه، وهذا الموقف يتكرر الان بصورة او بأخرى مع اختلاف التحدي ذلك ان القوى الاستعمارية وقوى التغريب والغزو الثقافي قد استطاعت ان تحرث الارض وان تبذر فيها كثيراً من البذور ولكن العبرة في الحصاد، فأن كل ما زرع لم ينبت في الارض الاسلامية بل كشفت الثقافة الاسلامية عن اصالتها فرفضت هذه البذور وتمسكت بأصالتها وما تزال المعركة قائمة والنصر فيها للحق. ان غاية الثقافة الاسلامية هي المحافظة على الخصائص والمقومات الجوهرية مع القدرة على الحركة والاختيار والاخذ والعطاء، وقد كانت هذه الثقافة قادرة على الحركة والتطور والنمو دوماً دون ان تفقد عنصر الوحدة والاتصال بالماضي والتراث والموازنة بين الروح والمادة مع الحرص على الجوهر الذي لا تطغى عليه الاهواء ولا تجتاحها العواصف ولا تقع في ازمات التمزق والصراع والضياع.
ان المشكلة الثقافية تتمثل في ان جانباً من المفاهيم المطروحة في افق العالم الاسلامي سواء عن طريق التعليم او النشر في الصحافة او الكتاب ليست اصيلة المصدر وهي معرضة للقيم الاساسية الاسلامية ولا سيما في التاريخ والاجتماع والتربية وفي المواد الفلسفية تتجلى اتجاهات فكرية ومفاهيم مشتقة من عقائد ومذاهب فكرية مخالفة للاسلام، وهذه المواد لدى اصحابها قد اسست على مفاهيم فلسفية واسس فكرية نتيجة تطورهم الفكري وظروفهم الخاصة ومن هذا الصراع بين العلم والدين او بين الدين والعقل ذلك الصراع الذي وقع لديهم في الغرب نتيجة للتشوه الديني والانحراف الى وثنية جامدة ومناصرة رجاله لاهل الظلم والاستبداد.
ولقد تجلى هذا في نزعات فكرية تخالف الاسلام، اهمها النزعة الالحادية بشتى صورها والمذهب الطبيعي والمادية الجدلية والدعوة الى تقديس العقل الغربي واعلاء الغرائز والنزعة الاقليمية وتعصب العرق، حتى اخذت هذه النزعة العنصرية تحل محل الدين وتزاحمه ويحاول اصحابها ان يجعلوا منها الرابطة الاساسية وان يجعلوا من رابطة العقيدة رابطة ثانوية. ومن البين مدى خطر هذه النزعة على تفكيك وحدة الفكر والثقافة والعقيدة الانسانية التي اقامها الاسلام وجعل لها المقام الاول وبذلك غدا دين الانسانية الاول بلا منازع.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة