البث المباشر

التشكيك وتخريب الأدب العربي

الخميس 31 يناير 2019 - 17:32 بتوقيت طهران

الحلقة 165

ابتلي الادب العربي بعدد من النظريات الغريبة التي جلبت اليه في مجال النقد الادبي من افرازات الاداب الاجنبية القائمة على نزعة مادية شوهاء، وفي لقاءات سابقة تحدثنا عن عدد من مظاهر الغزو الثقافي التغريبي التي واجهها هذا الادب ويبرز الآن اسلوب التشكيك الماكر احد اساليب التخريب التي رفع لواءها المستشرقون وتلامذتهم من العرب المنسلخين عن هويتهم واصالتهم.
التشكيك اسلوب ماكر متحايل اريد به ادارة الابحاث الادبية والعلمية والتاريخية كلها في دائرة اللاادرية والتشكيك والتهكم والسخرية‌ بحيث يرى القاريء انه ازاء جو مغرق في الاستهانة ولااحتقار لكل ما يتناوله، مثال ذلك المكر ما قاله طه حسين في احد مؤلفاته قال: «اخضعت للشك دون ان امس الدين بعض المعتقدات التي ورد ذكرها في القرآن واحاديث الرسول» اترى في هذا الاسلوب في المكر والتضليل ان يعترف هذا المتغرب بأنه اخضع بعض المعتقدات التي ورد ذكرها في القرآن للشك، وكيف يمكن ان يشك هذا الشك دون ان يمس الدين الذي هو مصدر الاعتقاد؟ والذي هو منطلق كل ما ورد في القرآن الكريم؟
هذه الخاصية التي تعاطاها طه حسين لبثها في الادب العربي قاومها كثير من الباحثين منهم الدكتور عمر فروخ الذي قال عن طه حسين: «ان من ابرز معالم ادبه تردده بين المفهوم وغير المفهوم والمتحول والثابت والممكن وغير الممكن ولم تره في كتاب الا داعية للشك ولا في مقالة الا آخذاً بالظن لم يثبت في حياته شيئاً، بل كان ينفي ما يثبت نفسه بنفسه وهو يكتب لعل، ربما»، ويقول باحث آخر: «ان لغة طه حسين لا تقطع في شيء ابداً، بل هي مرنة تصلح لللف والدوران، ولا تصف شيئاً بأنه اغرب ما يكون بالسواد او اقرب ما يكون الى البياض»، وقد اشار العقاد الى هذا المعنى فقال: «هناك النقيضة الظاهرة في اسلوبه بين الحزم والتشكيك، ان اخصب الالفاظ للشك في كلامه من امثال ازعم، قد ازعم، لعله يكون ولعله لا يكون، ربما ضحكت، ربما بكيت وتحسبه في الشك لا يستقر على شيء».
حول طه حسين الاعتماد على ما اسماه مذهب ديكارت في نشر هذا الاسلوب التشكيكي لكن يبدو ان كلامه لا يقوم على اساس علمي اصيل وانما هو محاولة مظهرية خادعة لخلق ارضية لاثارة الشبهات حول كل القيم والعقائد والمفاهيم التي يقوم عليها الادب العربي بل الفكر الاسلامي نفسه، وقد ركز طه حسين في اعتماد ما اسماه مذهب ديكارت على اعتقاد ان احداً لن يناقشه في هذه الاراء، لكن الدكتور محمد احمد الغمراوي خريج جامعة لندن في الكيمياء قد تصدى له بوصفه من اعلم الناس بمذهب ديكارت وكل ما يتصل بالعلوم وقد كشف الدكتور الغمراوي ان طه حسين كان بعيداً عن الحق في اعتماده على ما يسميه مذهب ديكارت وقال ان طه حسين زعم ان مذهب ديكارت من الشهرة بحيث لا يجهل احد من الناس ما اسماه القاعدة الاساسية لمنهج ديكارت من اجل ان يتذرع به الى الانسلاخ من كل قديم، حتى من هذه اللغة التي هو استاذ لآدابها، وليتخذه ذريعة يرمي من وراءها هذه اللغة‌وما اتصل بها حتى اذا قيل له لم فعلت ما فعلت؟ وهل يفعل هذا عاقل؟ قال فعله قبلي ديكارت! لقد كان شك ديكارت شك الفتى الغرير لا العالم الخبير، وقد خلط طه حسين بين الشك وبين المخرج من الشك، فجهل الشك الذي هو القاعدة الاساسية للمنهج الذي ابتغى ديكارت ليخلص به الى الشك في بعض ميادين البحث الى نتائج عظيمة، واشار الدكتور الغمراوي الى خطأ طه حسين حين قال: «ان القاعدة الاساسية لهذا المنهج ان يتجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل وان يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلواً تاماً»، والواقع ما قاله ليس من قواعد المنهج وان حقيقة ما قاله ديكارت هو:
اولاً: ان لا نقبل شيئاً على انه صحيح من غير ان نكون على بينة من انه كذلك، اي ان نتجنب العجلة والهوى وان لا نضمن قضايانا في الحكم اكثر مما يتمثل للعقل تمثلاً هو من التميز والوضوح بحيث لا يبقى لدينا مجال للشك.
ثانياً: ان نجزأ كل مشكلة نمتحنها الى اكثر ما يمكن او الى ما يتطلبه حل المشكلة من الاجزاء.
ثالثاً: ان نسير في تفكيرنا على ترتيب ونظام فنبدأ بأبسط الاشياء واسهلها معرفة لنرتقي بالتدرج الى علم اعقدها، هذا ما ذكره ديكارت وهو منقول من اصدق مؤرخيه وتلاميذه وليس فيه شيء مما ذكره طه حسين حين اشترط نسيان الدين والقومية وغيرها، واكثر من ذلك ان ديكارت ليس هو مبتكر هذا المنهج ولا باسكال فكلاهما قد سبقهما الغزالي في الاقل كما تشهد بذلك كتبه مثل محك النظر ومعيار العلم والغرب معذور حين ينسب بعض تلك القواعد الى ديكارت وبعضها الى باسكال فهما اول ما اظهره عليها، ولكن ما عذر طه حسين حين ينسب الى ديكارت منهجاً سبق اليه الغزالي؟
اجل، ها انت ترى‌ انه ليس بين هذا الذي قاله ديكارت وبين ما زعمه طه حسين لتجرد الباحث من كل شيء كان تعلمه عن موضوع بحثه من قبل، اية رابطة موضوعية صحيحة، بل هو ادعاء ظالم من طه حسين وتزوير لفكرة ديكارت بهدف الهجوم التخريبي على التراث كمظهر من مظاهر التغريب وتهديم الامة من الداخل، اذا كانت القاعدة الاولى عند ديكارت تدل على معنى فأن معناها ان لا يقال عن شيء انه حق الا اذا قام البرهان على انه كذلك وشتان بين هذا المعنى والمعنى الذي زعمه طه حسين من وجوب التجرد من كل ما قيل في موضوع البحث من قبل، اذ من الجائز ان يكون ما قيل اقام البرهان على صحته ثم انه من البديهي ان تلك القاعدة ليس معناها ان يتولى‌كل انسان اثبات كل شيء لنفسه بنفسه كما تقتضيه القاعدة‌الاساسية التي ذكرها طه حسين لان ذلك سخف ولا ينتج عنه الا التأخر والخطأ والفوضى، ولا شك ان هذا كله يشهد على طه حسين انه لا يمكن الا ان يسمى جاهلاً بديكارت ومفترياً عليه.
هذه الاصوات المغتربة المتجردة عن الاصالة لاريب انها لا تولد الا افكاراً شائنة هجينة تخرب الفكر وتدمر المعنويات وتجعل الانسان تابعاً ذليلاً الى ثقافة اخرى غريبة لا يمكن ان ينسجم معها او يكون جزءاً منها كما ان تلك الثقافة الغريبة نفسها لا يمكن ان تعترف لمتابعها الا على انه كائن مشوه قد اضاع المشيتين، ان الاهداف الاخرى المغرضة هي التي تحرك حركة التغريب وهي التي تمد افكار المندفعين الى تقليد الثقافات المجلوبة بالحماسة والتوجيه وهذه حالة قصيرة العمر مآله ولابد الى الزوال.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة