في الحديث عن الادب العربي يمكن ان يلاحظ ان عامة النقاد الذين تصدوا لدراسة هذا الادب في العالم العربي انما انفعلوا بالثقافة الاوروبية فأخذوا مناهج الاداب الغربية ومذاهبه في النقد وادخلوا فيها الادب العربي وحاولوا اخضاعه لهذه المناهج واستعانوا بمفاهيم المستشرقين الخاطئة والمغرضة، الخاطئة بحكم ضعف القدرة لديهم على تذوق الادب العربي والتعمق فيه والمغرضة بحكم دوافع الغزو الثقافي ومحاولة صهر الادب العربي في كيان الاممية العالمية ونتيجة للخلاف الطبيعي بين ادب وادب ومزاج عربي نفسي كونته عوامل كثيرة مباين لمزاج نفسي عربي كونته عوامل مختلفة ونتيجة لاختلاف العقليات والذهنيات، لم تستطع مذاهب النقد الادبي الوافد ان تمثل ميزاناً دقيقاً للادب العربي وعندما طبعت هذه المذاهب على الادب العربي الاسلامي جاءت ظالمة وكانت في نفس الوقت عديدة عن استيعاب ابعاده.
الواقع ان النقد في الادب العربي الحديث قد اعتمد مذهبين احدهما المذهب الفرنسي الذي يمثله تين وسان فيس والثاني المذهب الانجليزي الذي يمثله هارولت وماكولي واتصل المذهب الاول بالنثر بالاغلب كما اتصل الثاني بالشعر، هذا الاتجاه برز خلال الحرب العالمية الاولى وبعدها على ايدي بعض العائدين من اوربا والمتصلين بالادب الغربي بالقراءة او الدراسة في المدارس والكليات، وهذا المنهج الذي وصف بأنه منهج المدرسة الحديثة ويظل منقسماً الى هاتين المدرستين اي الانجليزية والفرنسية ما هو الا منهج الاوربيين وقد تبلور الاتجاهان الى مدرستين، مدرسة انجليزية في الشعر قام عليها شكري والمازني والعقاد واتخذت اراء هارولت وماكولي من النقاد الانجليز وقد تبلور هذا المذهب في خلال فترة ما بين الحربين بما يسمونه بالمذهب النفسي او النفساني، ومدرسة فرنسية في الادب شعراً ونثراً قام عليها احمد ضيف وطه حسين وهيكل وزكي مبارك اعتمدت اراء تين وسان فيس من النقاد الفرنسيين وقد تبلور هذا المذهب في خلال فترة ما بين الحربين بما يسمونه بالمذهب الاجتماعي وبذلك يمكن القول ان الادب العربي في دراسات تاريخه ونقده قد سقط في قبضة المذاهب الغربية التي قام امثال نيلينو وكازينوفو وماسينيون وغيرهم من المستشرقين بتدريسها في الجامعة المصرية القديمة على اختلاف في المزاج النفسي والثقافي بين ادب هؤلاء المستشرقين وبين ادب العرب وتاريخه ومضامينه فضلاً عن اختلاف البيئة والذوق.
كان لتعميق هذا الاتجاه وانتصاره على المذاهب القديمة ولعجز الادباء في هذه الفترة وحتى الان عن مقاومته او ابتداع مذهب اصيل كان له اسوء الاثر في الانتاج الادبي العربي وقد سيطر هذا المذهب عن طريق الجامعة المصرية التي كانت يومذاك مؤسسة رسمية خاضعة لوزارة المعارف التي تقع تحت نفوذ الاستعمار البريطاني بالاضافة الى مختلف نظم التعليم والتربية والثقافة في ذلك الوقت، وهو مجال الصحافة السياسية التي كانت تقوم بالمزايدة بالادب في سبيل كسب الانصار في مجالها الحزبي، هذه المذاهب الواقدة تركت اعمق الاثر في الانتاج الادبي بل حولته عن ذاتيته وجوهره ومضامينه الواقدة ولو ان الادباء وقتئذ كانوا خالصي النية في خدمة الادب العربي لأمتصوا من هذه الادبية خير ما فيها ثم بنوا نظرية اصيلة مستمدة من جوهر هذا الادب وفق مفاهيمه وقيمه ومناهجه، ذلك ان الادب العربي كانت له نظرية وقوانين معروفة نمت وتطورت ثم توقفت وجمدت وكان بالامكان تنميتها وتحريرها من ضعف القديم مع تحريرها ايضاً من سيطرة الواقد على الحياة الادبية، هؤلاء لم يكونوا قد تعمقوا في الادب العربي تعمقاً يجعله اصيلاً في نفوسهم ولن يكونوا قد اعتنقوا القيم الثقافية الاسلامية اعتناقاً شبيهاً في اقل تقدير بأعتناق ادباء النهضة الغربية للقيم اليونانية والاغريقية والرومانية والمسيحية التي شيدوا عليها مناهجهم الادبية وقد نظر هؤلاء الادباء الى الادب الغربي بأجلال واكبار ونظروا من خلاله الى الادب العربي نظرة احتقار وازدراء او نظرية السخرية والعطف، هذه النظرة ليست صادقة على الاطلاق لم يكن الادب العربي وهو قطاع من جوهر المعرفة الاسلامية العملاقة اقل قدراً من ادب اليونان او الادب الفرنسي الذي ازدهى بين هؤلاء الادباء واكبروه ووضعوه في المقدمة واتهموا الادب العربي بأنه اخذ منه وبلغ في ذلك غاية الاساءة والطعن حين قال ان خير ما في الادب العربي انما جاء من الفرس واليونان.
ان مصدر هذه النظرية الخاطئة المضللة انما جاء نتيجة خضوع هؤلاء الادباء للفكر الغربي والصدور من احكامه والانصهار في بوتقته ورؤية الادب العربي والفكر الاسلامي في اطار نظرية المستشرقين وهي نظرية معادية مضللة وضعت تحت لواء الاستعمار نفسه وخضعت لنفوذ التبشير والتغريب والغزو الثقافي واريد بها هدم هذا الادب بأيدي ابناءه اولياء الثقافة الغربية الذي اتصلوا بتلك الجامعات في الغرب او بمعاهدات الارساليات في بلادهم، ولا ريب ان الخطر لا يقف عند مناهج الادب وحدها بل اتسعت دائرته فشملت الفكر الاسلامي جميعاً عن طريق الادب فقد كان الادب هو الطريق السهل لضرب كل القيم واثارت الشبهات حولها من خلال نظرية ماكرة استهل بها الادباء عملهم تلك هي فصل الادب عن الفكر الاسلامي ومنحه الحرية الكاملة في ان يصدر دون ان يربط بينه وبين المقومات المختلفة كالاخلاق والدين والتربية وكان هذا المنطلق وحده هو اخطر ما وجه للادب العربي كله من عوامل التدمير وكان الباب الذي نفذ منه دعاة التغريب الى هدم مقومات الفكر الاسلامي اذن لم يقف امر الخطر الذي واجه الادب العربي عند حد المذاهب الادبية المجلوبة من الغرب والتي كانت غريبة على الادب العربي مضللة في مجال تطبيقها عليه بل تعدت ذلك الى اخطار كبرى تتصل بجذور الفكر نفسه.
ترى ما هي آثار الغزو الثقافي الذي حمل على الادب العربي وحاول اجتياحه؟ الواقع ان الاثار عديدة متنوعة نشير في هذا اللقاء الى طرف منها بما يسمح به الوقت على ان نكمل متابعة هذه الاثار في اللقاء القادم ان شاء الله، اول اثار حركة التغريب على الادب العربي تقديس الادب اليوناني والاشادة به والاعلاء من شأنه والدعوة الى معرفته وفرض تدريس اللغتين اليونانية والرومانية في الجامعات ومحاولة القول ان الفكر الاغريقي كان بعيد الاثر لا في الادب العربي وحده بل في الاسلامي كالفكر كله، ثاني هذه الاثار ان هذا كان باباً لاعلاء الادب الغربي بفنونه المختلفة واتهام الادب العربي بالنقص في مجالات القصة والمسرحية والادب الملحمي، والثالث من اثار الغزو الثقافي الغربي الاستهانة باللغة العربية ومحاكمتها على نحو محاكمة اللغة اللاتينية والاعتناء بشأن العاميات والاقليميات والدعوة من التحرر من البلاغة العربية للفصل بين مستوى القرآن البياني وبين مستوى الكتابة العربية.
*******