لما انشق أديم الليل عن صبحه كان مؤذن الحسين عليه السلام "الحجاج بن مسروق الجعفي" ولكنه ـ عليه السلام ـ قال لولده علي الأكبر ـ عليه السلام ـ يا بني قم أنت في هذا اليوم فأذن، ثم تيمم هو وأصحابه ـ عليه السلام ـ بدلاً عن الوضوء فأدوا السنة وأقاموا الفريضة جماعة.
ولما سلم الإمام ـ عليه السلام ـ رفع يديه بالدعاء، وقال: اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ؛ وَأَنْتَ رَجَائِي فِيكُلِّ شِدَّةٍ؛ وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِـي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ. كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ؛ أَنْزَلْتُهُ بِكَ، وَشَكَوْتُهُ إلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي إلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ؛ فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي، وَكَشَفْتَهُ، وَكَفَيْتَهُ. فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ، وَمُنْتَهَي كُلِّ رَغْبَةٍ.
وقبل ان يتموا تعقيبهم ارتفعت أصوات الطبول والمزامير من عسكر ابن سعد وأقبلوا إلى ناحية معسكر الحسين ـ عليه السلام ـ يجولون عدة زرافات ووحدانا رجالة وفرسانا، فقام الامام الحسين ـ عليه السلام ـ فعبأ أصحابه وإنتظمت الصفوف من الجانبين ميمنة وميسرة.
خطبة الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ الأولى
ثم ان الامام الحسين ـ عليه السلام ـ بعد إلتئام الصفوف وجلهم سامعون وقوف، ركب راحلته واستنصتهم فأنصتوا له، فنادى بأعلى صوته : يا أهل العراق إسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق لكم علي، وحتى أعذر فيكم فإن أعطيتموني النصف من أنفسكم وإلا فإجمعوا أمركم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون، إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
ثم قال: أما بعد: فانسبوني وانظروا من أنا ثم راجعوا أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول مصدق به، أو ليس حمزة سيد الشهداء عمي أو ليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمي. أو لم يبلغكم قول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة، فإن صدقتموني فيما أقول وهو الحق، والله ما تعمدت الكذب منذ علمت ان الله يمقت عليه أهله. وان كذبتموني فإن فيكم من سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخدري وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم وأنس بن مالك يخبروكم انهم سمعوا تلك المقالة من رسول الله لي ولأخي. اما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي.
ثم قال،عليه السلام : فإن كنتم تشكون في ذلك، افتشكون إني ابن بنت نبيكم؟ والله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم. ويحكم اتطلبونني بقتيل منكم قتلته أو بمال استهلكته أو بقصاص جراحة؟
فأخذوا لا يكلمونه.
فنادى: يا شبث بن ربعي ويا حجار بن ابجر ويا قيس بن الأشعث ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليَّ أن اقدم فقد أينعت الثمار واخضر الجناب وانما تقدم على جند لك مجندة.
فقال ابن الأشعث ما ندري ما تقول ولكن أنزل على حكم بني عمك فإنهم لم يروك إلا ما تحب.
فقال له الحسين عليه السلام : لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد.
ثم انه ـ عليه السلام ـ أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان ان يعقلها فعقلها.
ثم انه عليه السلام : دعا بفرس رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ المرتجز وركبها وتوجه نحو عسكر "عمر بن سعد" وبين يديه جماعة من أصحابه فيهم : برير بن خضير فلما قربوا منهم ناداهم برير يا قوم اتقوا الله فإن ثقل محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ اصبح بين أظهركم. هؤلاء ذريته وعترته وحرمه، فهاتوا ما عندكم وما تريديون ان تصنعوا بهم.
فقالوا: نري ان نأتي بهم الأمير عبيد الله بن زياد، فقال لهم: أفلا تقبلون ان يرجعوا إلى المكان الذي جاءوا منه، ويلكم يا أهل الكوفة: أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها، ويلكم يا أهل الكوفة دعوتم أهل بيت نبيكم وزعمتم إنكم تقتلون أنفسكم دونهم حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد ومنعتموهم عن ماء الفرات، بئس ما خلفتم نبيكم في عترته، ما لكم لا سقاكم الله يوم القيامة، فبئس القوم أنتم.
فقالوا اكفف يا برير فما ندري ما تقول؟ فقال الحمد لله الذي زادني بصيرة فيكم، اللهم أني أبرأ إليك من أفعال هؤلاء القوم، اللهم إلقِ بأسهم بينهم حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان.
الخطبة الثانية:
خطب الامام الحسين ـ عليه السلام ـ خطبته الثانية: قال ـ عليه السلام ـ أنشدكم الله:هل تعرفونني من أنا؟
قالوا: نعم أنت ابن رسول الله وسبطه.
فقال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن أمي فاطمة بنت رسول الله؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم هل تعلمون أن جدّتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلاماً؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيّار في الجنّة عمّي؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله أنا متقلّده؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن علياً كان أول القوم إسلاماً وأعلمهم عِلماً وأعظمهم حلما، وانه ولي كل مؤمن ومؤمنة؟
قالوا: اللهم نعم.
قال: فبم تستحلّون دمي وأبي الذائدُ عن الحوض يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادر عن الماء، ولواءُ الحمد في يد أبي يوم القيامة؟!
قالوا: قد علمنا ذلك كلّه ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشانا.
فلما سمع الامام ـ عليه السلام ـ ذلك دمعت عيناه وضرب على لحيته المقدسة، وقال: اشتد غضب الله على اليهود حين قالوا عزير ابن الله، وعلى النصارى إذ قالوا المسيح ابن الله، وعلى المجوس إذ عبدوا النار دونه، واشتد غضبه على هذه العصابة التي اجتمعت على قتل ابن بنت نبيهم. أما والله لا اجيبهم إلى شيء ممما يريدون حتى ألقى الله مخضبا بدمي.
فلما سمعت بناته وأخته زينب كلامه بكين وندبن ولطمن خدودهن، وارتفعت أصواتهن، فوجّه إليهن أخاه العباس وابنه عليّاً ـ عليهما السلام ـ وقال لهما: أسكتاهنّ فلعمري ليكثرن بكاؤهن.
وصايا الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ لبنات الرسالة
فلما أيس الحسين ـ عليه السلام ـ من نزوعهم عن بغيهم ورجوعهم عن غيهم، وَطَّنَ نفسه على الشهادة والفوز بتلك السعادة، فأراد ان يعزي نساءه وأهل بيته قبل فوته.
قالت زينب ـ سلام الله عليها ـ لما رجع الحسين ـ عليه السلام ـ من محاورته مع القوم جاء فدخل خيمتي وكنت خلف الخيمة فنادى أين زينب؟ فقلت: لبيك فقال: إحضري رقية وأم كلثوم وصفية وسكينة وفاطمة وباقي بنات رسول الله صلى الله عليه وآله.
فلما حضرن قلن: فديناك ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن أوصيكن إذا أنا قتلت فلا تشققن عليَّ جيبا ولا تلطمن عليَّ خداً ولا تخمشن علَّي وجها. فقالت زينب عليه السلام : يا أخي هذا كلام من أيقن بالموت، فقال لها نعم يا أختاه. فصاحت وا ثكلاه وا محمداه وا علياه وا ضعفاه وا غربتاه وا قلَّ ناصراه، فقال لها عليه السلام : يا أختاه تعزي بعزاء الله، فإن أهل الأرض يموتون. وسكان السماء لا يبقون. ولا يبقى إلا وجهه، فلا يذهبن بحلمك الشيطان. فقالت: جعلت فداك ردنا إلى حرم جدنا فاختنق صلوات الله عليه بعبرته، وقال: هيهات لو ترك القطا لغفا ونام.
الخطبة الثالثة للامام ـ عليه السلام ـ في جيش الكوفة
ثم رجع الحسين ـ عليه السلام ـ إلى الميدان فنظر إلى تلك الصحراء وقد غصت بجنود الشيطان كأنها السحاب المتراكم وقد اظلم الجو. وانسدت الأقطار بالغبار فتقدم الإمام وزهير بن القين أمامه فنادى أيها الناس: إن من حق المسلم على المسلم النصيحة و نحن و أنتم على دين واحد وقد ابتلانا الله بذرية نبينا لينظر ما نحن وأنتم صانعون و أنا أدعوكم إلى نصره و خذلان الطغاة؟ فقالوا نحن لا ندع صاحبك واتباعه حتى يكونوا عرضة للسيوف أو يبايعون يزيد وابن زياد. فقال ويحكم ان الحسين ـ عليه السلام ـ أولى بالنصرة والمودة من ابن هند وابن سمية فإن كنتم غير ناصرية ولا مؤدين حق الله فيه فلا تعينوا على قتله. فأخذ الشمر سهما ورماه وقال قد أكثرت يازهير في كلامك فأخفف. ثم تقدم الحسين ـ عليه السلام ـ وخطب خطبته الثالثة فقال:
الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالا بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن اليها وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، واعرض بوجهه الكريم عنكم وأحل بكم نقمته وجنبكم رحمته، فنعم الرب ربنا وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول ثم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم، قد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبا لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون. (هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعدا للقوم الظالمين).
فخشي "ابن سعد" (لعنه الله) أن تقع الفتنة في عسكره وترجع إلى الحق عزائمهم، فقطع على الحسين ـ عليه السلام ـ كلامه وقال لهم: هذا ابن أبي طالب أقسم بالله لو وقف فيكم سحابة يومه خطيبا ما كلَّ ولا انقطع.
فتقدم شمر (لعنه الله) وقال ما تقول يا حسين أفهمنا ما تريد؟ فقال عليه السلام : أقول اتقوا الله ربكم ولا تقتلوني، فإنه لا يحل لكم قتلي وإنتهاك حرمتي وأنا إبن بنت نبيكم.
ولما رأى "ابن سعد" ان كلمات وخطب الامام ـ عليه السلام ـ كادت أن تلين لها الصخور، نادى بعسكره فأحاط بالإمام ـ عليه السلام ـ وجعله في مثل الدائرة وأحدقت به الخيل والأعين واشرعت نحوه السيوف والأسنة وأرادوا ان يناجزوه القتال فقال لهم: وليكم ما عليكم أن تنصتوا إليَّ وتسمعوا قولي وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من الفائزين ومن عصاني كان من الهالكين، فتلاوم العسكر ما بينهم وقال بعضهم لبعض ما عليكم ما سمعتم ما يقول.
الخطبة الرابعة في صبيحة عاشوراء
خطب الامام الحسين خطبته الرابعة لإلقاء الحجّة، بعدما أخذ مصحفاً ونشره على رأسه، فقال: (يا قوم إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة، وما عليه من سيف النبي ودرعه وعمامته، فأجابوه بالتصديق.
فسألهم عمّا أقدمهم على قتله؟ قالوا: طاعةً للأمير عبيد الله بن زياد.
فقال عليه السلام: "تبّاً لكم أيّتها الجماعة وترحاً، أحين استصرختمونا والهِين، فأصرخناكم موجفين، سَللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلْباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلاّ لكم الويلات تركتمونا، والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لما يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدَّبا، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش، ثمّ نقضتموها، فسُحقاً لكم يا عبيد الأمّة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرّفي الكلم، وعصبة الإثم، ونفثة الشيطان، ومطفئي السنن.
ويحكم أهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون، أجَلْ والله غدرٌ فيكم قديم، وشجت عليه أُصولكم، وتأزرت فروعكم، فكنتم أخبث ثمر شجٍ للناظر، وأكلة للغاصب.
ألا وإنّ الدعي بن الدعي ـ يعني ابن زياد ـ قدْ ركز بين اثنتين، بين السلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحُجور طابت وحجور طهرت، وأُنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الأسرة على قلّة العدد وخذلان الناصر".
ثم ختم خطبته هذه بالدعاء عليهم فقال: اللهم احبس عنهم قطر السماء وابعث عليهم سني كسني يوسف وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كاساً مصبرة، فانهم كذبونا وخذلونا وأنت ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
محاورة الإمام ـ عليه السلام ـ مع عمر بن سعد (لعنه الله)
ثم دعا الامام الحسين ـ عليه السلام ـ بعمر بن سعد (لعنه الله) فجاءه على كراهية منه فقال: يا عمر أنت تقتلني وتزعم أن يوليك الدعي ابن الدعي بلاد الري وجرجان، والله لا تهنأ بذلك أبدا، عهداً معهودا، فاصنع ما أنت صانع، فانك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، و كأني برأسك على قصبة قد نصب في الكوفة يتراماه الصبيان. فصرف "اللعين" وجهه الخبيث عنه وقد امتلأ غيظا وغضبا، ثم صاح بغلامه يا دريد ادن رايتك، فأدناها ثم وضع سهما في كبد قوسه ثم رمى وقال: اشهدوا لي عند الأمير اني أول من رمى. ثم أقبلت السهام من تلك الجموع كأنها الليل.
قال العلامة التستري أعلى الله مقامه: قتل بهذه السهام التي انصبت كالمطر ما يقرب النصف من عسكر الحسين ـ عليه السلام ـ الواقفين في الميمنة والميسرة.
السلام على الحسين وعلى اهل بيته واصحابه البررة.