قصة لقاء النبي موسى (عليه السلام) بالعبد الصالح كما ظهرت في سورة الكهف المباركة هي من اعجب قصص القرآن الكريم، هي عجيبة في شدة خفاءها وعمق معانيها، وهي عجيبة في المستويات المختلفة المتدرجة التي تنطوي عليها وعجيبة في اسرارها المعلنة واسرارها الخفية، انها قصة موسى والعبد الصالح الخضر (عليه السلام) والسفينة والغلام والجدار، يفقد موسى (عليه السلام) طعامه فيلتقي بهذا العالم الكبير فيفهم الاشارة اذا انسلخ المرء من هموم المادة انفتح على الغيب وابصر الحقائق الحية المتوجة خلف القشرة المادية وبطلب موسى بدماثة وادب جم ان يتتلمذ على العبد الصالح فيشرط عليه هذا ان لا يسأل عن شيء مما يفعل حتى يبتدأه هو بالايضاح والتفسير، وينطلقان معاً فيركبان سفينة لمساكين يعملون في البحر فيخرقها العبد الصالح دونما سبب ظاهر مما يثير موسى (عليه السلام) ويحمله على الاعتراض ثم يواصلان مسيرهما على اليابسة فيجدان غلاماً صغيراً فيحمله هذا العبد ويجلد به الارض وتزهق نفسه ويثور موسى على قتل النفس بغير جرم ثم يعتذر لمخالفته الشرط وتسرعه في الاعتراض، ودخلا بعد مدة قرية وهما متعبان جائعان فأستطعما اهل القرية فأبوا ان يضيفوهما فوجدا جداراً يريد ان ينقض فأقامه مجاناً وبدون طلب احد من اهل القرية، فأعترض موسى قائلاً لو شئت لا تخذت عليه اجراً، عندئذ قال العبد العالم لرفيقه «هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا» وبدأ العبد الصالح يكشف لموسى السرو يريه تأويل ما حدث، «اما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت ان اعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا واما الغلام فكان ابواه مؤمنين فخشينا ان يرهقهما طغياناً وكفراً فأردنا ان يبد لهما ربهما خير منه زكاة واقرب رحما واما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان ابوهما صالحاً فأراد ربك ان يبلغا اشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعتله عن امري ذلك «تَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا».
في الطفولة ركبت السفينة مع موسى والخضر لم يفهم مما يجري شيئاً، كنت سعيداً بنزهة البحر وهياج الامواج وهذه القواقع التي حملتها معي من الشاطيء، لم اكن واعياً لهذه الاسرار التي تضمنتها القصة موسى وفتاه وهذا الحوت او السمكة المشوية المهيئة للغداء التي فقدها موسى لقد وصلا الى مكان يسميه القرآن مجمع البحرين ويسميه مجمع بينهما والمكان عند صخرة، اوى موسى وفتاه الى الصخرة وفي هذه الصخرة عين لا يحدثنا عنها القرآن ويبدو ان في هذه العين سراً يتصل بالحياة لان جزءاً من مياه العين حين وقع على السمكة المشوية او الحوت الصغير اصاب السمكة شيء مدهش فقد عادت الى الحياة وقفزت في مياه البحر ولاحظ فتى موسى او تلميذه هذه المعجزة ونسي ان يحدث عنها موسى.
وكبرت اكثر وقمت بالرحلة مرة ثانية وشاهدت العبد الصالح يخرق السفينة ودهشت وكدت احتج مع موسى ولكن خشيت ان يغضب العبد الصالح او يغضب موسى لانني ارفع صوتي جوار صوته، وهكذا صمدت.
وكبرت اكثر ولم اعد اعترض على العبد وهو يخرق السفينة ادركت انه كان ينقذ اصحاب السفينة بأعاية السفينة، كنت اجلس صامتاً اتأمل غرابة ما يجري لموسى (عليه السلام)، لقد بدأت حياة موسى وهو طفل بألقاءه في صندوق والقاء الصندوق في الماء وكان هذا التدبير الالهي لينجو موسى من القتل، كان البحر هو اول من استقبل موسى وهو طفل وها هو موسى يركب سفينة لينجو من تصور ان علمه هو العلم الوحيد الموجود على الارض، وقتل موسى انساناً حين وكزه فقضى عليه وها هو العبد الذي يصحبه موسى يقتل غلاماً، وقد تصرف العبد الصالح في القرية البخيلة تصرفاً اريحياً بلا اجر وكان هذا تصرف موسى حين وصل الى مدين ووجد الناس يحاولون ان يستقوا ووجد فتاتين لا تزاحمان الرجال فسقا لهما. ان قصة العبد الصالح تقابل قصة موسى والرموز هنا تقابل الرموز هناك والاسرار تزداد وتتكاثف، وكلما تقدمت الايام بالانسان واشتعل الرأس شيبا، فزاد حظ المرء من الادراك وزاد حظه من التحير.
القصة بحر مياهه بلاقاع وفي البحار الحقيقية اجزاء تبدو من فرط العمق بلا قرار، وفي بحار الحب الالهي اجزاء بلا قاع حقيقي وكل موجة من امواج هذا البحر سر كالبحر نفسه ولو حاولناً اليوم ان نقرأ فلن نقرأ اكثر من هذا الموج القريب الهاديء الذي يتكسر زبداً ابيض على الشاطيء لن نقرأ ابعد من سطور الشاطيء مما نقرأه في ظاهر هذه القصة، قصة موسى والعبد الصالح والسفينة والغلام والجدار ان في الحياة حوادث يختلف ظاهرها عن باطنها، الظاهر يبدو لنا محنة او فجيعة او رزءاً ولكن الباطن يموج بالرحمة والنعمة، وقد يبدو لنا ظاهر الواقعة او الحادثة شيئاً من اللا معقول الخالي من دقة التدبير في حين ينطوي باطنها على حكمة عميقة وارادة دقيقة فياضة بالرحمة واللطف، ترى ماذا نفهم من الاحداث الثلاثة في القصة؟
السفينة التي خرقها العبد الصالح الغامض يمكن ان نتخذها رمزاً يدل على كل ما يملكه الانسان في الدنيا ويحرص عليه من مادياتها والغلام الذي قتل هكذا بدون ذنب اجترحه يرمز لكل ما يقع على الانسان نفسه من اضرار في الحياه الدنيا واعلاها القتل، اما الجدار الذي اعيد بناءه مجاناً في قرية بخيلة فهو رمز لما نظن انه فعل عابث في الظاهر او غير عقلاني في حين يدل في حقيقته وباطنه على حكمة دقيقة وعميقة تكتمل اذن بهذا الرموز الثلاثة.
ان الاضرار التي تقع على ما نملك والدم الذي ينزف منا او ممن نحب وظاهر ما نراه من عبث في الحياة من حولنا هذا كله يستبطن حكمة عميقة موصولة بالرحمة الالهية الشاملة التي تتخلل كل ذرات الوجود، كل خراب ظاهر او موت ظاهر او عبث ظاهر، ليس كذلك في باطنه وفي حقيقة وجوده، الواقع انه جزء من نسيج الرحمة الالهية، واي انسان يصيبه شيء تخرق سفينة عيشه او يقتل له طفل او يموت له احد او يرى الافعال العابثة المحيرة تملأ الحياة من حوله اي انسان يحدث له شيء من هذا فما عليه الا ان يذهب الى مجمع البحرين حيث ذهب موسى (عليه السلام)، وليقف امام الآية الستين من سورة الكهف، ليقف هناك ويبكي ما شاء الله له ان يبكي فالبكاء رقة في القلب وضو ولتسقط الدموع بملح الصدق في مياه البحرين بملحمها ولير كل بعد ذلك السفينة ويصاحب موسى والعبد.
سوف يقرأ في اسرار الموج عناية الله ورحمته سبحانه، وما هذا العبد المتدثر بالخفاء والسر سوى يد من ايادي الرحمة الالهية فهو عبد يتحدث عنه الحق بقوله تعالى «آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا» اجل يا اخي ان الرحمة الالهية معنى من معاني القصة وفي القصة معاني اخرى دعنا نتعرف عليها في لقاءنا القادم بأذن الله.
*******