تكشف لنا سجلات تاريخ الامم المختلفة عن جوانب من الحياة السياسية والفكر السياسي نظرياً وعملياً وقد تحدثنا في لقاءات سابقة عن شكل من اشكال انظمة الحكم في التاريخ وهو حكم الطاغيه الذي يعد اسوء هذه الاشكال واخسها واكثرها ايغالاً في السمات الحيوانية والبهيمية المتوحشة وحكم الطاغية ظهرت له اشكالاً ايضاً احطها وادنسها ذلكم الشكل الذي يرتدي فيه الطاغية عباءة الدين فيظهر بمظهر الطهر والقداسة والحق الالهي في الحكم لكنه يمارس من الطغيان ابشع صوره ومن الاستبداد اشنع مظاهره ومن الروح الشيطانية اقذر مراياها، ثم لا يجد ادنى حرج في ادعاء فيمومته على الحياة الدينية وانه الناطق عن الله المفوض اليه الهياً استعباد الناس واذلال خلق الله.
يقول جيمس الاول ملك انجلترا اننا نحن الملوك نجلس على عرش الله في الارض، ويقول الخليفة العباسي الثاني ابو جعفر الدوانيقي المتلقب بالمنصور يقول ايها الناس انما انا سلطان الله في ارضه ثم هذا زميلهما التالف لويس الخامس عشر ملك فرنسا يقول في مرسوم له صدر عام ۱۷۷۰ للميلاد اننا لم نتلقي التاج الامن الله وصلاحية سن القوانين هي من اختصاصنا وحدنا بلا تبعة ولا شركة، والواقع انه من الظلم القادح للدين الالهي الحق ان ينسب اليه مثل هذا الحكم المطلق الذي ينصب حاكماً مستبداً او طاغية جائراً ليكون هو الاله او ابن الاله كما هو الحال في الشرق القديم او ليكون خليفة الله في الارض يأمر وينهى ويحكم ويستبد بل حسيب ولا رقيب ولا رادع من انسانية او ضمير ان افترضنا وجود بقية من انسانية او ضمير.
الحق ان كثيراً من الطغاة الذين ارتدوا عباءة الدين ما كان لديهم ضمير انساني كما ان بعضهم كان يتساءل ان يمكن ان يكون للحاكم المطلق من حساب في الاخرة الحقة في حين ان بعضاً ثالثاً من هؤلاء جمعوا الفقهاء المتاجرين والعلماء الخونة فأصدروا فتاواهم بوجوب اطاعة الحاكم حتى لو كان مستبداً جائراً وحرموا الاعتراض والثورة عليه بحجة انه ولي الامر وولي النعمة وانه لا حساب عليه بعدئذ ولا عقاب والى آخر هذه المآسي المقذعة التي ارتكبت بأسم الدين واستحوذ فيها الحكام على مواقع الانبياء القادة الهداة واوصياء الانبياء عليهم جميعاً صلوات الله.
في التاريخ كان اليهود من الاوائل الذين حاولوا اقامة دولة لهم بأسم الدين وهم اول من صاغ مصطلح الثيوقراطية اي الحكم الديني وذلك لاسباب خاصة بهم منها اعتقادهم الباطل بأن الله تعالى قد ميزهم عن الامم الاخرى وانهم اقرب الشعوب الى الله لما يتمتعون به من خطوة خاصة، ولهذا يعد الفكر السياسي اليهودي اقدم ضروب الحكم الديني على نحو ما عبرت عنه ايات العهد القديم الذي يدعون مصدره الالهي، الفكرة الظاهرة لهذا الكتاب اليهودي هي ان الشعب اليهودي هو شعب الله المختار فهو لا يشبه سواه من الشعوب لانه يمثل قومية عرقية تعتمد على ما جاء في سفر التثنية من ان اسرائيل يحكمها الله مباشرة فهوالذي قسم الامم ووضع حدوداً للشعوب واصطفى شعب اسرائيل ليكون شعب الرب، واذا كان لكل شعب ملاك حارس يرعاه ويمثله في السماء فأن الرب هو الذي يرعى الشعب اليهودي على نحو مباشر ويقولون ان اليهود هم الذين افسدوا هذه الدولة عندما افسدوا هذه العلاقة الحميمة بالرب فلم يرعوا عهداً ولاذمة، جاء في نص توراتي من نصوصهم الربة كافئون بهذا يا شعباً غبياً غير حكيم.
ويعتقد برت راندراسل ان محاولة بعض المسيحيين فيما بعد ذلك اقامة دولة مسيحية ما هي الا محاولة لمحاكاة الدولة اليهودية ووراثتها ومن هنا كانت محاولة الملوك ابان العصور الوسطى ارتاء عباءة الدين او الادعاء بأنهم يستمدون سلطانهم من الله لتبرير سلطتهم المطلقة انما هي محاولة لاحياء الدولة اليهودية هذا اذا لم نقل انها محاولة لتقليد الطغيان الشرقي القديم بوصفه نمط الحكم الذي يمكن الملك من الاستبداد ويطلق يده في امور الرعية مع ضمان تقديس الشعب له في نفس الوقت.
اما الفكر النصراني فقد نقلب في الفكر السياسي خلال الزمن وشهد تبدلات عديدة، في البدء كان التركيز على موضوع الروح في مقابل الجسد المادي الذي كان محط اهتمام اليهود ومن هنا لم يحتوي الفكر المسيحي على اية عقيدة سياسية اذ كان الهدف ايقاض الاهتمام بالحياة الروحية والالتفات الى العالم الداخلي الذي يحمله الانسان، هذا العالم الباطن هو صورة من مملكة السماء ولكي يبلغ المرء هذه المملكة عليه ان يحطم الاوثان التي اقامتها الشهوات واهواء الدنيا وهكذا لم يكن للحياة الارضية لدى النصارى الا موقع ثانوي وقد ظهرت في تعاليم رجال المسيحية فكرة الفصل هذه وامتدت في تطبيقات عملية منها ما هو ذو طابع سياسي، انه مادامت الحياة الارضية بغير قيمة فهي عبء مؤلم على الانسان ان يتحمله ليعبر جسر التنهدات الى الحياة الابدية بل اصبحت جزئياتها وتفصيلاتها مجرد اعباء ومحن وهكذا تكون العبودية السياسية كالفقر من الناحية الاجتماعية والمرض من الناحية الصحية محنة قد يمر بها المرء على الارض وتلك هي طبيعة المملكة الدنيوية التي يمكن ان تفرض على الانسان مجموعة من المحن والالام وعليه ان يتقبلها ويرضى بها لمصلحة حياته الروحية، ومن هذه المحن محنة الحكم المطلق او الاستبداد او حكم الطاغية فلما كان المجال منفصلاً تماماً عن مجال الروح كان على المرء ان لا يأسى كثيراً على محن الجسد ومن هنا جاءت عبارات القديس بولس التي اتخذها الطغاة دعماً لسلطانهم يقول ايها العبيد اطيعوا سادتكم في كل شيء والظالم سينال ما ظلم به وما ثمة محاباة.
وكذلك هو يدعو الى طاعة السلطة غير الدينية ويرى ان السلطة حتى سلطة الطغاة مستمدة من الله يقول لتخضع كل نفس للسلاطين المتغلبين لانه ليس سلطان الا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله حتى ان من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله وهكذا يعلن القديس بولس ان الحاكم يستمد سلطته السياسية من الله وان مقاومته تعني عصيان الارادة الالهية ومعارضة للترتيب الالهي ثم ان سيف الحاكم لا يعاقب الا الاشرار فمن عارضه وعوقب فهو شرير اثم.
وهذه نفس الفكرة التي دعا اليها القديس بطرس في قوله ايها الاحباب اخضعوا لكل ترتيب بشري من اجل الرب اكرموا الجميع خافوا الله اكرموا الملك وهكذا نجدهما معاً بولس وبطرس يؤكدان ضرورة احترام النظام القائم بل والخضوع له بأعتباره عملاً الهياً فليس من حق المواطن مهاجمة المؤسسات القائمة بل ما عليه الا الاستسلام والخضوع ومن هنا ظهر المبدأ الذي حكم به الطغاة واستغله الملوك المستبدون طويلاً في اوربا وهذا المبدأ هو ان كل سلطة مستمدة من الله وهو المبدأ الذي يبرر الطاعة المطلقة والاستسلام الكامل للطاغية اينما وجد وقد كان هذا هو المصدر الذي انبثقت منه نظرية الحق الالهي في الحكم رغم ان المسيحية قد خطت بعد ذلك خطوة اخرى مهمة عندما نفت بشدة الطبيعة الالهية للحكام واعتبرته بشراً لكنه يتمتع بسلطان من الله.
*******