البث المباشر

الأب الأرضي في الثقافة الفرعونية

السبت 26 يناير 2019 - 11:44 بتوقيت طهران

الحلقة 84

الميل الى التسلط والاستبداد يتذرع بذرائع شتى للقبض على السلطة والتحكم في العباد وقد عرف التاريخ صوراً عديدة لهذا التسلط ووجوهاً مختلفة كان من اقدمها في الشرق وفي الغرب ايضاً صورة الحكم الثيوقراطي الذي يلبس الحاكم المتسلط فيه عباءة الدين ويبدو للناس انه يحكم بأسم الاله والخضوع له ولا حكامه فرض لازم، وفي قراءة سابقة تعرفنا على نهج السلطة السياسية في بابل التي تجعل الملك هابطاً من السماء ويحكم في الارض نيابة عن الاله، اما في مصر الفرعونية فكان الملك ينظر اليه على انه اله منذ بداية النظام الملكي فيها وهذه الالوهية المدعاة لم تكن رمزية في نظرهم او مجازية تشير الى السلطة المطلقة للملك والى مكانته العالية بل تعبير حرفي عن عقيدة هي احدى سمات مصر الفرعونية وهي عقيدة تطورت على مر السنين لكنها لم تفقد شيئاً من قدرتها وتأثيرها.
الملك في هذا النظام البائد هو قبل كل شيء الاله حرس او الاله الصقر وهو احياناً اله الشمس رع ويصبح حرس تابعاً له ويغدو الملك في هذه الحالة هو حرس رع او يصبح فيما بعد ابن الاله رع وهو في جميع الحالات اله بين الالهة المزعومة ويمثل البلاد بين الالهة وتتجسد فيه مصر وهو يمثلها في مجمع الآلهة ثم هو من ناحية اخرى الوسيط الرسمي الوحيد بن الشعب والالهة والكاهن الاوحد المعترف به للالهة كلها، وهناك نصوص في تمجيد الملك تصفه بأنه مجموعة من الالهة لا اله واحد فهو سيا اله الادراك وهو رع اله الشمس وهو خنوم خالق البشر بزعمهم على دولاب الخزاف وهو باسنس اله الحامية وسخمت الهة العقاب ومعنى ذلك ان الفهم والادراك والحكم الاعلى واكثار السكان والحماية والعقاب هي كلها من خصائص الملك والملك كل واحد منها فالملك هو كل هذه الالهة.
وكثيراً ما يقال في هذا النظام التسلطي المتلبس بالدين ان الاله الاعلى رع هو الذي نصب ابنه ملكاً على ارض مصر ولهذا اتخذ فرعون لقب ابن رع اي هو الابن الجسدي الذي جاء من صلب اله الشمس هذا. ان احداً لا ينكر ان الحاكم قد ولدته في هذه الدنيا امرأة لكنهم يقولون مع ذلك ان اباه هو اله ذلك ان من واجب الاله الاكبر ان يضمن لارض مصر حاكماً الهياً ونظراً لاهتمامه بمستقبل البلاد فأنه كان يتردد على الارض لينسل لها حكامها.
اما الاب الارضي عزيزي المستمع فلم يكن مشكلة عند قدماء المصريين اذ يزعمون ان الاله الاكبر حين يريد النسل فأنه يتخذ شكل الملك الحي ويهبه ما يجعله ابناً له، وعند ما يعتلي فرعون العرش كان على الناس ان يفرحوا ويبتهجوا لان احد الارباب قد اقيم رئيساً على كل البلاد وهم يزعمون في هذه الحالة ان مياه النيل الاوسط سوف ترتفع ولا يهبط منسوبها وحتى بعد موته يظل الملك يحدب على مصر ويعطف عليها ولهذا كان عليهم تخليد ذكراه الى الابد، ولا يصبح الملك ملكاً الا بعد حفلة التتويج وتتم مراسمها عادة في مدينة ‌منف بسلسلة من الطقوس الرمزية والادعية التقليدية التي يجري فيها تذكير الناس بتوحيد المملكتين في شخص الملك فيدخل صف الالهة ويصبح نظيراً لها بعدها ينتصب ناهضاً وعلى هامته تاج الجنوب الابيض وتاج الشمال الاحمر ويجلس على العرش فوق البردي واللوتس ويدور حول الجدار الابيض رمزاً لتوليه الدفاع عن مصر اسوة بالشمس التي تقوم بدورة حول الارض ولكن فرعون الذي هو الملك الاله طيلة حياته يتحول ايضاً الى اله بعد موته ومن هنا جعلوه يستحق مناسك العبادة والتكريم، يزعمون ان يصعد الى السماء ليتحد بقرص الشمس ويندمج مع ابيه رع وهذا التأليه في الدارين الفانية والباقية لم يكن مجرد نزوات ملك عاة مستبد اوجب على رعيته الخانعين الاخذ بها انما هو عقيدة بأنه اله دائم الاتصال بكبار الالهة وان له القدرة على الطبيعة فهو يستطيع السيطرة على ظواهرها وتسخيرها ولهذا يقول احد الوزراء ان الملك اله تساعدنا اعماله على العيش او يقول احد الفراعنة المتوفين كنت ملكاً اقوم بتأمين تمو الشعير ووفقاً لهذه التصورات الموهومة عن قائد السلطة‌ لا عجب ان يلقب الملك بأنه سيد المصريين او ربهم وهو ايضاً السيدتان اي ملتقى الالهتين الحاميتين اللتين تحميان الشمال والجنوب، اما اللقب السيدان فهو يعبر عن ان الالهين المتنافسين لمصر العليا ومصر السفلى حرص وست يقيمان جسدياً ويصطلحان في شخص الملك.
لهذا كله اخي المستمع فأن الملك في مصر يصفونه بهذه الصفات:
اولاً: انه شخصية الاهية مقدسة فهو اذن اقدس من يخاطبه احد مباشرة فمن كان بشراً عادياً فلا يستطيع ان يتكلم مع الملك بل يمكنه فقط ان يتحدث في حضرة الملك بل ان كل ما هو جرء من شخصية الملك كظله مثلاً فهو مترع بالقداسة فلا يقوى البشر على الدنو منه.
ثانياً: ان هذه الشخصية الالاهية تتمتع بعلم الاهي ايضاً فلا تخفى على الملك خافية يقول احد الوزراء ان جلالته عليم بكل شيء كان ويكون وما في الدنيا شيء الا يعلمه انه توت اله الحكمة في كل شيء وما من معرفة الا وقد احاط بها.
ثالثاً: ان كل ما يتفوه به صاحب الجلالة يجب ان ينفذ بل لابد ان يتحقق فوراً لان ارادته هي القانون ولا للعقيدة الدينية من قوة‌ والزام فهو يعمل ما يحب ان يعمل ولا يرتكب شططاً وهكذا لا يسع المواطن المصري العادي الا التسليم والخضوع لاوامر فرعون ونواهيه.
رابعاً: انه ترتب على شخصية الملك الاسطورية هذه نتيجة مهمة ايضاً هي انه لم يكن هناك قواعد قانونية مكتوبة او مفصلة، اذ لم تكن حاجة اليها مادامت كلها متمثلة بشخص الملك الاله الذي كان دائماً على استعداد لاصدار الاوامر اللازمة لما يجب ان يكون عليه وضع الدولة وطرق التعامل فيها وربما كان من اسباب وجود قواعد قانونية الخوف من ان تقيد سلطة الملك الشخصية.
خامساً: ان القضاة كانوا يحكمون حسب العادات والتقاليد المحلية التي يرون انها توافق الارادة الملكية التي يمكن ان تتغير اذا اقتضت رغبة صاحب الجلالة.
ان الملك كان هو الرابط التوحيد بين الناس والالهة فهو الكاهن الاكبر الذي يعين الكهنة لمساعدته ومن هنا فهو وحده الذي يستطيع تفسير ما تريده معت الاهة‌ العدالة ويقوم بتطبيقه في مملكته ولهذا القي في روع الناس في مصر القديمة ان الارادة الملكية لا يمكن ان تهدف الا لسعادة مصر ورخاءها، معنى هذا كله ان فرعون في مصر هو المشرع وهو المنفذ وهو الذي يحكم بأسمه في القضاء وهو الذي يعرف رغبات الالهة ويحققها وكثيراً ما كان يقول في اوامره لابنه او لوزيره ان الالهة ترغب في احقاق الحق وهي تكره اشد الكراهية الاخذ بالوجوه والتحيز.
اجل هذه هي صيغة السلطة السياسية في مصر الفرعونية فرعون هو المرجع الاعلى والمؤل الاسمى واليه وحده ترفع طلبات الاسترحام ولا يمنع منها احد من رعاياه وهذا كما ترى يا اخي المستمع الكريم اسلوب في غاية‌ المكر والدهاء تلبس فيه الطاغية بمعاني دينية لاحكام قبضته على المحكومين وليطاع طاعة عمياء توفر له التفرد بالسلطة والاحساس بلذائذها، ومرة اخرى فأن الاعراض عن النهج النبوي الذي جاء به الانبياء (عليهم السلام) هو مباءة مناسبة لنمو مثل هذه الاساليب الماكرة لاستغفال الناس والاستحواذ عليهم تحت ستارة الدين.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة