سلام من الله اللطيف الودود عليكم مستمعينا الاكارم ورحمة شاملة منه وبركات واهلاً بكم في لقاء آخر من هذا البرنامج.
لا ادري احباءنا ان كنتم قد رأيتم او سمعتم بلوحة «ضامن الغزالة» التي تصور القصة المشهورة لضمان الامام الرضا عليه السلام لغزالة صادها صياد وانقاذه لها في نهاية المطاف. هذه الصورة منتشرة في ايران، وهي تصور سعة وشمولية الرحمة الالهية الجارية على ايدي اهل بيت النبوة عليهم السلام والتي تنتقل الى قلوب المتوسلين بهم الى الله مبدأ كل رحمة.
لهذه اللوحة اثر عميق في قلب صاحب قصة هذا اللقاء وعنوانها هو:
بحر المحبة
من مقعده... مد رجليه ليغور اسفل كعبهما في رمال الشاطئ البليلة الناعمة.
مر محلقاً من فوق رأسه سرب من طيور البحر، تطلق نغمات مرحة. الهواء ساخن مشبع بالرطوبة. وعلى الحدي البعيد كان صدر السماء الازرق يعانق زرقة البحر.
داعبت موجة رقيقة قدميه، فسرت برودة الماءالى كيانه. قدم قليلاً مقعده المتحرك ليغطس بموجات الماء قدميه الي الساق. غارت عجلات المقعد في الرمل، وكانت الموجات المتكررة تحيط به وبمقعده.
سرت تحت جلده لذة محببة، فشعر بالغبطة. اضطرمت في داخله رغبة في السمك والصيد. لذة القفز في الماء، هوس السباحة، النط والغطس تحت الماء، حماسة السياق والفوز بالمرتبة الاولى! هلم يا مير مراد! عجل يافتى...
لم يبق شيء، اسرع. انت الفائز هذه السنة ايضاً، بسرعة ... بسرعة. لكن رجليه تصلبنا فجأةً وتشنج فيهما العصب، فاحس بالالم مدمراً في اعماقه. لا يفصله عن خط النهاية سوى اقل من خمسين متراً، لكنه مهما فعل لم يقدر على الحركة من مكانه... لقد تخلف واجتازه الآخرون. في لهاته ملوحة ماء البحر. هبط... وصاح، وصعد وصاح ايضاً. سمع صوتاً:
- ماذا جرى.... ميرمراد؟! لماذا توقفت؟! اسرع... لقد تخلفت ، اسرع.
ولما استفاق... كان في المستشفى. هم ان ينهض... فلم يقدر. كانت رجلاه عاجزتين عن الحركة، وكانت زوجته تبكي عند رأسه.
- ماذا حدث لي؟
سأل ... فانتحبت زوجته. وكان نحيب امرأته هو الجواب.
اراد ان يقول شيئاً، لكن لم تسعفه الكلمات. امسك بيد امرأته، وتأوه بصوت خفيض:
- ادعي لي.
وبلل خده ندى دموع عينيه.
هكذا اموت اذن يا امرأة! ان مير مراد يعني الدأب. مير مراد يعني الماء، يعني الصيد، يعني السباحة. ومير مراد بدون هذه كلها انسان ميت.
لم يمهله البكاء. نشج نشيجاً عالياً، وكان قلبه في دعاء: يا غياث المستغيثين... يا مددي!
طنت في أذنيه ترنيمة صيادي السمك:
- هي هي ... الله هي. هي هي.. علي هي.
عاد الى نفسه، وراح يتطلع هناك الى صيادي السمك. كانوا يخرجون الشبكة من البحر وهم يشكرون على طريقتهم في الشكر. رأى نفسه بينهم. كان - كما هو علي الدوام - قوياً مهيباً، سباقاً دائماً واعلى صوتاً من الآخرين، معتمداً على كتفه في سحب الشبكة وهو يهتف:
- هي هي ... يا الله.
ان الصياد بلا بحر وبلا شبكة لا يمكن ان يقال انه حي. انه ينادي الحياة حينما يذهب صباحاً الى البحر، ويعود عصراً لأخذ الشبكة من البحر أملاً في الصيد. غير انه، وهو حبيس العجلة والعصا، قدمات دفعة واحدة. كيف يستطيع ان يصدق انه لن يذهب الى البحر ابداً؟! لن يسحب الشبكة مستنداً الى كتفه، لن يجلس في القارب، ولن يصيد الاسماك من قلب البحر!
فيما مضى كان مجرد تخيله لذاك كافياً لان يصاب وبالجنون! اما الآن.. فعليه ان يتقبله. عليه ان يتعود. ينبغي ان يحمل نفسه على القبول والتحمل.
- وداعاً... ايها البحر!
قال هذا... وهم ان يتحرك. لكن العجلة لم تستحب. القى نظرة على عجلات المقعد. كان المقعد غاطساً في رمال البحر الى النصف.
اراد اخراج قدميه من الرمال البليلة . حاول... لكن بلاجدوى كانهما لاصقتان بالشاطئ. وادار نظره فيما حوله. كان الصيادون قد جمعوا صيد اليوم واستعدوا للذهاب صاح ميرمراد:
- هاي ... هاي!
لكن صوته ضاع مع الامواج، ولم يأت احد لاعانته. غطست الشمس في البحر، ومد الليل ظله الواجم على الشاطئ.
كان ميرمراد متعباً كسير القلب، يحاول بدأب. ارتفعت امواج البحر، وغار المقعد الى نصفه في الماء.
رمق السماء بنظرة ... كانما ينتظر من السماء النصرة والعون. وفجأةً انفجر قلبه بيكاء اخترق صمت ليل الشاطئ، وهتف من اعماق الفؤاد:
- ايها الامام الرضا!
احس ان احداً امسك بمقبض مقعده، واخذ يجره الى الخلف. وكان يسمع في خلال ذلك صوتاً مألوفاً لديه:
- ماذا تفعل وحدك هنا يا ميرمراد؟ هل اختليت بالله في جوف الليل؟
انه يعرف هذا الصوت. صاح بفرح:
- الله ارسلك... الله القدير.
دهشت المرأة، وتابع الرجل:
- ان الذي ارسل الي، باستغاثة من القلب، من يقدر على عوني... لابد انه في صدد التفضل علي بالشفاء.
سألت المرأة: والآن ماذا تريد ان تفعل؟
قال الرجل بحزم: اذهب لزيارته. الله جعله وسيلة لنا اليه نحن البشر. اذهب اليه طالباً الشفاء دعت له المرأة ان ينال المراد. وفي تلك الليلة هجع الرجل مطمئناً اكثر من اي ليلة اخرى.
كانت الشمس ترتفع من الافق حينما ترجلا من حافلة الركاب. اقترح ميرمراد على زوجته ان تأخذه مباشرة الي الحضرة.
استقر عند النافذة الفولاذية فاحس هناك انه كائن طليق... كطائر اطلق من القفص. ذهبت زوجته لبعض شأنها، فاسند ميرمراد راسه الى نافذة الحضرة وانخرط في البكاء. نطق في بكائه:
- مولاي... تلك الليلة عشت الانفراد واحسست بالوحدة بكل وجودي. تلك الليلة انقطع رجائي من كل شيء.. من كل احد. لا ادري اية قوة اجرت اسمك على لساني. وانا الآن اقسم عليك بمن اجرى اسمك على لساني ان لا تردني خائباً. ها انا الآن وحيد.. لا احد لي، عليل عاجز. ما لي رجاء الا الله... والا انت يا وسيلتي الي الله.
كان ميرمراد مستغرقاً في مناجاته... لا يشعر مما حوله بشيء. لم يشعر بمدى الوقت الذي مر عليه وهو يبوح ويتضرع من القلب، ولم يشعر حتي بالغفوة التي هيمنت عليه ونقلته الى عالم آخر.
في المنام رأى انه ذاهب مرة اخرى الى الصيد. كان يريد ان يسحب الشبكة من عمق البحر، غير ان الشبكة علقت بعائق. لم تنفع محاولاته. لمح رجلاً يدنو منه بطمأنينة ووقار. كان بهي الطلعة، اخضر الثياب:
- ماذا حدث يامراد؟
- الشبكة لا تخرج من البحر يا سيد!
- لماذا؟
- لا ادري يا سيد!
- انا اساعدك، حاول مرة اخرى.
امسك الرجل حبل الشبكة بكفه واخذ يجره اليه، فانسحبت الشبكة برفق وخرجت من البحر. كانت الشبكةملأي بالسمك... اكثر من كل مراته السابقات رمى بنفسه على قدمي الرجل:
- انا ممنون لك ايها السيد من انت؟
ابتسم السيد وامسك بكتف ميرمراد:
- انهض ميرمراد. انا من جئت لعونك لما ناديتني تلك الليلة من صميم قلبك وكنت في غاية الوحدة والانفراد. والآن ناديتني ايضاً، لقد سمعت صوت قلبك المنكسر. قل ... ماذا تريد؟
- الشفاء يا سيدي! اريد الشفاء.
- انهض، فقد شفيت.
ونهض ميرمراد، لكنه لم يجد السيد. كان هو وحده وهذه الجموع من الناس كان هو وشباك الصحن العتيق. كان هو وهمهمة الدعاء. كان هو واقفاً قبال مشبك النافذة الفولاذية. دهش على حين غرة، ونظر فيما حوله. وجد مقعده الى جوار النافذة من دون ان يكون هو جالساً فيه!
كان واقفاً على قدميه، فصاح بلا ارادته:
- هي هي... ياالله. هي هي يا رضا!
مد يده وامسك بالحبل يجره. صعدت الشبكة ملاي بالسمك. الاسماك تتقافز صاعدة هابطة، وهي تنظر اليه نظرات استعطاف، تفتح افواهها طلباً للماء.
مكث ميرمراد لحظة يحدق بالشبكة الزاخرة بالاسماك. كم كانت نظراتها مسكينة مستعطفة! تماماً مثل تلك النظرة الحزينة القلقة التي اعتقها الامام(ع) في صورة «ضامن الغزالة» التي كان ميرمراد قد قضى ساعة في مشهد يتطلع اليها باهتمام.
مد مير مراد يده، وحل عقدة الشبكة. كانت السمكات في آخر لحظات حياتها خطا خطوة الى الامام. والقي الشبكة المحلولة في الماء، فعادت الاسماك مرة اخرى الي الحياة.
ترك الشبكة في الماء، وغاصت الاسماك سابحة الي الاعماق. وعلت ابتسامة شفتي ميرمراد.
انها ابتسامة الرضا.. هي نفسها الابتسامة التي شاهدها على وجه الصياد في صورة «ضامن الغزالة».
ومن حينها لم يعد مير مراد يذهب للصيد.
*******