البث المباشر

همسات في شغاف القلب- التوبة

الأحد 10 نوفمبر 2019 - 08:08 بتوقيت طهران

إذاعة طهران- همسات في شغاف القلب: الحلقة 14

الحمد لله على جميع فضله، واشرف صلواته على خاتم رسله، وعلى الائمة من اهل بيته وآله.
اخوتنا الاكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، واهلاً بكم في همسةٍ مهمةٍ جداً، وهي حول "التوبة"، اذ كلنا خطّاؤون مذنبون، وخير الخطّائين التوابون. وحقيقة التوبة ـ ايها الاعزة ـ هي يقظة الضمير، وشعور المذنب بالندم والاسى، وهي الانابة الى الباري تبارك وتعالى، والعزم الصادق على نبذ عصيانه، وهي تصفية النفس من رواسب الآثام والموبقات.. وليست التوبة لقلقة لسان.
يسأل كميل بن زياد أمير المؤمنين علياً عليه السلام: ما حدُّ الاستغفار، اجابه عليه السلام: التوبة، ثم استدرك له: ان العبد اذا اصاب ذنباً يقول: استغفر الله، بالتحريك .. الشفتان واللسان، يريد ان يتبع ذلك بالحقيقة. سأل كميل: ما الحقيقة؟ قال عليه السلام: (تصديق في القلب، واضمار ان لا يعود الى الذنب الذي استغفر منه).
سأل كميل: فاذا فعل ذلك، فانه من المستغفرين؟ قال: لا.. لانك لم تبلغ الى الاصل بعد .. الرجوع الى التوبة من الذنب الذي استغفرت منه، وهي اول درجة العابدين، وترك الذنب، والاستغفار اسم واقع لمعانٍ ستة: اولها الندم على ما مضى، والثاني العزم على ترك العود ابداً، والثالث ان تؤدي حقوق المخلوقين التي بينك وبينهم، والرابع ان تؤدي حق الله في كل فرض، والخامس ان تذيب اللحم الذي نبت على السحت والحرام حتى يرجع الجلد الى عظمه، ثم تنشىء فيما بينهما لحماً جديداً، والسادس ان تذيق البدن ألم الطاعات كما اذقته لذات المعاضي.
قال تعالى: "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات" (سورة الشورى: ۲٥)، اذن فالتوبة ـ ايها الاخوة ـ فرج للعباد، والقاء للتبعات الثقال عن كاهلم، فرسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (التوبة تجبُّ ما قبلها) . وأمير المؤمنين عليه السلام يقول: (التوبة تطهر القلوب، وتغسل الذنوب) . والتائب .. يكفيه شرفاً انه موضع محبة الله تعالى وعنايته وستره، فالله جل وعلا يقول في محكم كتابه: "ان الله يحب التوابيين ويحب المتطهرين" (سورة البقرة: ۲۲۲).
وورد عن الامام جعفر الصادق عليه السلام انه قال: (اذا تاب العبد توبة نصوحاً احبه الله فستر عليه في الدنيا والاخرة .. ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب، ثم يوحي الى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي الى بقاع الارض: اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب .. فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب). ومن قبل ورد عن المصطفى صلى الله عليه وآله انه قال: (ليس شيء احب الى الله من مؤمن تائب، او مؤمنة تائبة) ..
ومن لطف الباري تعالى ان ينقل التائب مما كان يخوض فيه من الذنوب، الى مواضع يوفق فيها للطاعات، اذا صحت توبته.. وقد قال عز من قائل: "الا من تاب وآمن وعمل صالحاً، فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً رحيماً" (الفرقان: ۷۰).
والمهم في التوبة ـ ايها الاخوة الافاضل ـ انها واجبة، وينبغي ان يتعجل فيها العبد يسابق بذلك اجله، اما التسويف فيها فهو من مكائد الشيطان، يستدرج به الانسان حتى يبلغ به حالة العجز عن التوبة، او يوصله الى الموت قبل ان يستغفر ويؤوب الى رشده، وينوب الى ربه عز وجل.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله لابن مسعود: يا ابن مسعود، لا تقدم الذنب، ولا تؤخر التوبة، ولكن قدم التوبة وأخّر الذنب، فان الله تعالى يقول في كتابه: "بل يريد الانسان ليفجر امامه" (القيامة: ٥).
ومن اهم شروط التوبة واركانها: الندم على الذنوب والتقصير، والعزم على عدم العودة الى الذنوب نهائياً، ليوفق العبد بعد ذلك الى التوبة وقبولها والله من رحمته يقول: "ألم يعلموا ان الله هو يقبل التوبة عن عباده.." (التوبة: ۱۰٤)، هذا ـ ايها الاخوة ـ اذا استوفت التوبة شروطها، واستدرك العبد نفسه قبل ان يخطفه الموت وهو لاه او مصر، قال تعالى: "انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب، فأولئك يتوب الله عليهم، وكان الله عليماً حكيماً، وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى اذا حضر احدهم الموت قال اني تبت الان، ولا الذين يموتون وهم كفار، اولئك اعتدنا لهم عذاباً اليماً" (النساء:۱۷-۱۸).
والذين لا يوفقون للتوبة، اما ان يكونوا مأخوذين بحالة الغرور والطيش، فلا يفكرون بالتوبة بعد ان هيمنت الشهوات على قلوبهم، او انهم يسوفون راجين ان يعمروا، فاذا ماتت نزواتهم ونزعاتهم، ولم يقدروا على ان يقترفوا المعاصي التي اعتادوا عليها ايام عافيتهم وشبابهم، ربما فكروا بالتوبة، فهم يؤجلونها، وقد لا يؤجلهم الموت الى ذلك الحين، والدهر ذو نكبات ومفاجآت، مع ان الله عز وجل يدعو عباده كل آن للتوبة، وينتظرهم عليها، يقول نبي الرحمة صلى الله عليه وآله: (والله باسط يديه عند كل فجر لمذنب الليل، هل يتوب فيغفر له؟! ويبسط يديه عند مغيب الشمس لمذنب النهار، هل يتوب فيغفر له؟!).
اخوتنا الاحبة .. صحيح ان التوبة فضيلة، ولكنها ليست بالهينة بعد ان يتورط المرء بالذنب، لان الذنب لابد ان يترك اثره، وازالة ذلك الاثر عمل شاق، ولذا يقول الامام علي عليه السلام: (ترك الذنب، اهون من طلب التوبة) .. وجاء عن السيد المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام قوله: (ان من ليس عليه دين من الناس، أروحُ وأقلُّ هماً ممن عليه الدين، وان احسن القضاء وكذلك من لم يعمل الخطيئة، اروحُ هماً ممن عمل الخطيئة، وان اخلص التوبة واناب).
اما اذا ابتلي العبد بذنب ما، فليعجل توبته، وليسارع في طلب المغفرة، قال امير المؤمنين عليه السلام مرة: (العجب ممن يقنط ومعه الممحاة! فقيل له: وما الممحاة؟ قال الاستغفار) . واوصى عليه السلام فقال: (تعطروا بالاستغفار، لا تفضحكم روائح الذنوب) .

 

الراوي: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله مستظل بظل شجرة في يوم شديد الحر، اذ جاء رجل فجعل يتمرغ في الرمضاء يكوي ظهره مرة، وبطنه مرة، وجبهته مرة، ويقول:
التائب: يا نفس ذوقي .. فما عند الله عز وجل من العذاب اعظم مما صنعت بك.
حضرت الرسول صلى الله عليه وآله: يا عبد الله، لقد رأيتك صنعت شيئاً، مارأيت احداً من الناس صنعه، فما حملك على ما صنعت؟
التائب: حملني على ذلك ـ يا رسول الله ـ مخافة الله عز وجل .. وقلت لنفسي: يا نفس ذوقي، فما عند الله اعظم مما صنعت بك.
الراوي: فقال له النبي صلى الله عليه وآله: (ان ربك ليباهي بك اهل السماء) . ثم قال لاصحابه: (يا معشر من حضر، ادنوا من صاحبكم حتى يدعو لكم فدنوا منه..) فدعا لهم يقول:
التائب: اللهم اجمع امرنا على الهدى، واجعل التقوى زادنا، والجنة مآبنا.
رجل: حدثنا يا محمد بن رافع عن ما رأيته في النوم عن ابي نؤاس:
ابن رافع: كنت صديقاً لأبي نؤاس .. فلما مات جزعت عليه من عذاب الله، فرأيته في النوم على هيئة حسنة، فقلت له ابن رافع يا أبا نؤاس، ما فعل الله بك؟
ابو نؤاس: غفر الله لي.
ابن رافع: وكيف؟!
ابو نؤاس: لأبيات قلتها.
ابن رافع: وما هي يا أبا نؤاس؟
ابو نؤاس: هي عند امي، خذها ان اردتها منها يا ابن رافع.
الراوي: فمضى محمد بن رافع الى ام أبي نؤاس، واخبرها بما رأى من حال ابنها، وسألها عن الأبيات، فاحضرتها له، وكانت في كتابٍ مكتوبٍ بخط ابي نؤاس نفسه، يعرب فيه عن توبته، وعن رجائه بعظيم رحمة ربه "تبارك وتعالى". فأخذ ابن رافع الكتاب وأخذ يقرأ أبيات أبي نؤاس:
رجل: اقرأ لنا تلك الابيات يابن رافع ..
ابن رافع:

يا رب ان عظمت ذنوبي كثرةً

فلقد علمت بان عفوك اعظمُ

ان كان لا يرجوك الا محسنٌ

فبمن يلوذ ويستجير المجرمُ

ادعوك يا رب كما امرت تضرعاً

فاذا رددت يدي فمن ذا يرحمُ؟!

مالي اليك وسيلة الا الرجا

وجميل عفوك ثم أني مسلم

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة