البث المباشر

من أسرار إدخال الادب الاغريقي في الادب العربي -۳

الخميس 31 يناير 2019 - 17:56 بتوقيت طهران

الحلقة 182

اهتم مذهب النقد الأدبي الغربي الذي غزا الأدب العربي الحديث اهتم اهتماماً كبيراً بالأدب اليوناني وكان هذا عاملاً مقصوداً مخططاً له في عملية تغريب الأدب العربي وفصله عن جذوره القرآنية والاسلامية عامة وليزيد مسافة التباعد بين هذا الأدب واصوله الاصيلة، من هنا ركز التغريبيون على الادب اليوناني تركيزاً كبيراً وعهد الى الدكتور طه حسين ليكون كبير حملة دعوة التغريب واشدهم صلافة وهكذا ظهر عدد كبير من هؤلاء المنسلخين عن اصالتهم في بيروت وفي مصر وقد حرص النفوذ الأجنبي والغزو الثقافي ان يعني عناية شديدة بترجمة الأدب اليوناني واغراق الأدب العربي به وظلت كتابات طه حسين تحمل هذا المفهوم في كل ما كتب بصيغة افتتان باليونان والرومان ومبالغة في تصويرهم على انهم اساتذة العالم وحاملوا مشعل التمدن للشعوب كافة. ومن خلال منهج طه حسين واراءه انبعثت نظريات ودراسات وجرى في هذا الاتجاه عدد من الباحثين فنجد احمد امين يقول مثلاً ان الوثنية العربية وثنية ارضية وضيعة وان وثنية اليونان سماوية رفيع ثم جاءت مترجمات لطفي السيد لمؤلفات ارسطو في السياسة والاخلاق على هذا الاتجاه الذي اخذ ينمو ويمتد وحاول ان يمنح الأدب اليوناني الذي هو اساس الادب الحديث في الغرب لوناً من القداسة والمقام الرفيع وهكذا ترددت اسماء ارسطو وافلاطون وفرجيل وسواهم على انهم اعلام عظام لا يرقى اليهم احد، ثم جاءت محاولات امين الخولي التغريبية في مجال البلاغة والأدب ومحاولات الدكتور محمد غلاف في الادب الهيليني ثم ترجمات المسرحيات والقصص اليونانية وملحمة الاوديسا والالياذة اليونانية، ان طه حسين وغيره من دعاة الاغريقية انما يهدفون في شتى نواحي الفكر والثقافة والأدب الى الادعاء بأن الأدب اليوناني هو الذي خلق الفكر العربي الحديث ومن هنا فليس هناك ما يمنع من ان يتأثر الفكر العربي الحديث بالفكر الغربي من حيث انهما قد التقيا من قبل وهذا نوع من التنظيم الماكر الذي مارسته مدرسة التغريب في العصر الحديث.
ان الشبهات التي اثارها منهج النقد الغربي الدخيل لم تستطع الثبات كثيراً فقد كانت باطلة اساساً ولم يلبث الحق ان غلبها وهزمها مدة اقل كثيراً مما كان يتوقع دعاة التغريب والواقع ان كثيراً من الادباء الذين سيروا هذا المنهج قد دهشوا عندما انكشفت امامهم الحقائق فتحرروا منه وعادوا الى الحق، عادوا الى الايمان بأن الأدب العربي والأدب اليوناني بوماً شاسعاً وذلك من خلال جوانب كثيرة اهمها الفوارق الذاتية والنفسية والاجتماعية، وقد كشفت الابحاث التي قام بها عبد العزيز محمد الزكي ومفيد الشوباشي وزكي مبارك ومحمد غلاب ممن جروا اشواطاً مع منهج النقد الغربي الوافد كشفت ابحاثهم عن مدى فساد هذا المنهج وعجزه عن ان يكون صالحاً للتطبيق في مجال الادب العربي، كما قدموا الدلائل التي لا تقبل النقض في ان هناك استحالة في الالتقاء بين الادبين العربي الاسلامي واليوناني الاغريقي.
اما محمد مفيد الشوباشي فهو يعلن صراحة ذلك الخطأ الذي جرهم إليه طه حسين في محاولته تصوير الأدب الاغريقي بأنه أدب عالمي يسبق الأدب العربي ويتصدر الأدب الانساني، في هذا المجال يقول الشوباشي الذي افاق من غفلته «ليس من عجب ان يتعصب العنصريون الاوروبيون لقارتهم فيزعموا ان الأدب الاغريق وفنه هو المنبع الاول والاخير للآداب والفنون جميعاً وقد لا نعجب اذا انخدع ناس منا بهذه الاكذوبة ايام كنا نتلقى ابجدية العلوم والفنون من اولئك العنصريين ونتوهم فيهم صدق العلماء ولكن العجب ان يظل بعضنا بعد اتساع آفاق معارفنا مخدوعاً بأراجيف المغرضين وان يواصل ترديد اقواله بلا وعي ولا تدبر، والعجب ايضاً ان يحفظ ذلك في نفس الوقت الذي ينتصف فيه لحق العرب والمسلمين المهدور احرار شرفاء من مفكري اوروبا ويعترفون ان النهضة الاوروبية الحديثة لن تتحقق الا بعد ان تألق لألاء الأدب العربي في سماء اوروبا واخرجها من عصر الاساطير» وقد اشار مفيد الشوباشي الى‌ قصة اليكترا وقصة اوديب ملكاً وهما من قمم هذا الادب اليوناني وعجب كيف ان هذه القصص التي لا تحوي الا الغدر والقتل والاباحة هي موضع تقدير للدكتور طه حسين واعجابه الشديد، في قصة اليكترا تعبث كلينترا بقدسية‌ روابط الزوجية وتتخذ لها عشيقاً في غيبة زوجها ارخميل الذي رحل على رأس الجيوش الاغريقية لغزو تزواده ولم تكتفي بأرتكاب هذه المعصية البشعة بل اقدمت على جريمة اشد كفراً مدفوعة بشهوتها البهيمية فقتلت زوجها البطل غدراً بالاشتراك مع عشيقها في اثناء حفل اقيم لتكريمه بمناسبة عودته من حرب تروادة ظافراً، وكان لهذه القاتلة ‌ابنة تدعى اليكترا وطفل يدعى اورونت وقد خشيت الاخت ان تقدم امها على قتل ابنها الطفل ايضاً حتى تتحاشي انتقامه منها بعد ان يشتد ساعده فهيات اخته سبيل فراره مع مربيته وعاش اورونت بعيداً عن وطنه دون ان يعلم شيئاً عن جريمة امه ثم عاد الى مسقط رأسه بعد ان بلغ اشده وتلقفته اخته اليكترا التي قضت السنوات الطوال منطوية على اضغانها واطلعته على السر الرهيب وطلبت اليه ان يقتل امهما اخذاً بثأر ابيه، وما زالت تولول وتدفع اخاها الى الجريمة حتى لوث يديه بسفك دم امه، اجل هذه قصة اليكترا التي تعد من آيات الادب الاغريقي ودرجة تقديرها ترجع الى اشد مآسي الالياذة والاوديسا اتصافاً بالوحشية ومن هنا ظفرت بالنصيب الاوفر من اعجاب كبار كتاب الاغريق فراح كل منهم يصوغها في مسرحية جديدة مقتصراً على تحوير بعض حواشيها دون موضوعها الاصلي حتى قاربت المسرحيات التي تتناول نفس القصة الثلاثين مسرحية.
اما القصة ‌الاخرى التي تعد من مفاخر الادب اليوناني والتي ترجمها طه حسين نفسه فهي قصة اوديب ملكاً وتتلحض هذه القصة في ان اوديب قتل اباه وتزوج امه وان ابناءه هم اخوته لامه، فأقتص من نفسه وفقأ عينيه بيده ونفى نفسه عن المدينة وقتلت امه نفسها خنقاً، وقد ادى الدكتور طه حسين اعجابه الشديد بهذه القصة وامثالها من قصص الملاحم الاغريقية وقال انها منبع الآداب العالمية بأعتبارها فناً رفيعاً ‌لا تطاوله قصص العصر الحاضر فهل كان الواقع كذلك ولماذا يبالغ امثال هذ المنسلخ عن هويته كل هذه المبالغة في تمجيد ادب همجي فاسد كالأدب اليوناني، لنا لقاء قادم ان شاء الله نتعرف فيه على ‌طرف من حقيقة منهج التغريب.

*******

 

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة