البث المباشر

المزارات الأربعة لأبي الفضل العباس (ع)

الإثنين 19 نوفمبر 2018 - 14:58 بتوقيت طهران
المزارات الأربعة لأبي الفضل العباس (ع)

تشاد لأبي الفضل العباس الأكبر باب الحسين بن أمير المؤمنين علي باب رسول الله (ص) أربعة مزارات تزار وتعظم وهذه إحدى الخصائص العباسية التي أختص بها دون سائر الشهداء فإنا لم نعرف لسائر الشهداء بعد الحسين بن علي (ع) منذ عصر النبوة إلى يومنا هذا من شيدت له أربعة مزارات مواضع وكل واحد منها يقصد بالزيارة ويطاف به ويتبرك فيه كما يتبرك بركن البيت الأعظم ويلثم كما يلثم الحجر الأسعد ويلتزم ويستلم كما يمسك الملتزم ويستلم ركن الحطيم.

ليس هذا بعد الحسين ريحانة الرسول (ص) الذي شيدت له عدة مزارات إلا لحامل لوائه أبي الفضل العباس الأكبر فكانت هذه المزارات الأربعة في التبرك بها من أزمنة قديمة، فمزار الراس الشريف في العاصمة الأموية دمشق الشام ومزاراته الباقية تشرفت بها كربلاء حيث أحتوت عليها وضمتها جميعاً وإن تفرقت في أرجائها، فمزار الجثمان الأقدس حيث القبة المشيدة المرقد السامي والضريح المبارك المشهور ومزار الكفين خارج الصحن كما سنحقق موضعهما.

أحتفظت بهذه الأثار شيعة الحسين (ع) وعظمت هذه المزارات لهذه الأعضاء العباسية الكريمة منذ عصر الشهادة في أول النصف الأخير من القرن الأول الهجري إلى النصف الأخير من القرن الرابع عشر الهجري، بالخلف يقتفي السلف لأنها قد شهدت لها الأسفار التاريخية بوقع الكفين القطيعين كل واحدة من ناحية وسقوط الجسد في موضع الضريح الحالي والعضو الرئيس المبارك صلب أو دفن حيث المزار المشاد في دمشق العاصمة لسوريا اليوم.

لم تغفل شيعة الحسين (ع) على التنقيب والبحث عن الأثار المقدسة لأهل البيت النبوي لتقوم بما ندبها الله تعالى إليه من واجب التعظيم لأوليائه وحثها عليه من أحترام السلالة النبوية المحترمة بقوله تعالى: (ومن يعظم شعار الله فإنها من تقوى القلوب)(1).
إن الله تعالى ليدل الناس على جلالة أوليائه عنده ويرشدهم إلى عظيم منزلتهم لديه ويعرفهم أقدارهم ومحلهم الخطير السامي وعلو مكانتهم الرفيعة ولكن الناس ليصدفون عن الحقيقة اللامعة وينفرون عن البرهان الساطع ويتعامون عن الحق الواضح والحق تطفح غمرته ولا يقاوم تياره ولا يرد سيله الهائل ولا يحول دون جريانه حائل.
للمؤلف:

دعوا يا خصماء آل أحمد

لجاجكم وجانبوا لؤم الجدل

فقد تنكبتم طريق رشدكم

غياً وزيغاً ثم بؤتم بالفشل

فقد أشاد الله بالرغم لكم

مشاهد الغر بني خير العمل

فلا يضر أحمد أو رهطه

جحود من زاغ عناداً وأضل

إن تنصروا الله إذن ينصركم

قد قاله رب الورى عز وجل

ومن أطاع الله عز إسمه

أطاعه الخلق وما شاء فعل

ويرفع الله الذين آمنوا

برحمة منه إلى أسمى محل

فهذه قباب آل أحمد

شيدت على التقوى وإخلاص العمل

فهي قذى عيون جاحد يهمو

وهي الأعضاء ذوي البغضا شلل

وكل من لام على إتيانها

فذاك عندي ذو جنون وخبل

مراقد سمت فخاراً وعلت

على الضراح وأرتقت أسمى محل

ترمي على أعتابها تيجانها

كل الملوك ومشاهير الدول

لأنهم سلالة طيبة

عليهم الوحي من الله نزل

لم يجد المعادي لآل محمد (ص) سبيلاً إلى القدح في فضائلهم التي هي غرر في جباه الليالي والأيام ولم يرى وسيلة للغض وألح به داء العداء المزمن أخذ يتجه إلى القدح في أعمال شيعتهم ظناً منه أنه قد فتح رتاج مقفل يدخل منه إلى محو آثارهم فشنع عليهم بأن زيارة القبور بدعة وأن الطواف بها حرام. للمؤلف:

حرم الله روح من قال هذا

روح جناته وأصلاه نارا

إنما أسس الزيارة طاها

إذ لقتلى الأصحاب في اُحد زارا

ولقد صحت الرواية عنه

إنه زار من توفوا مرارا

أستغوى المنحرف فئة من السخفاء بتمويهه وأستجاش عادمي البصيرة والتفكير فنوه بذلك الإنكار الطائشون إعلاناً ناقدين لهذه الفضيلة واسمين لها بالهمجية وهي في الحقيقة نقد لشارع الإسلام وتشنيع على من تلقى الوحي عن الله تعالى الذي أرسله للاُمة بشيراً ونذيراً وليس هذا بنقض على شيعة الحسين (ع) إنما هو نقض على جد الحسين (ع) القائل: زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة، ولم يكتفي بالقول المجرد بل باشر فعلاً فزار قبر اُمه بالأبواء، وزار شهداء اُحد والبقيع وأمر بزيارتهم والإكثار منها، وجعل لبعض صلحاء أصحابه أمثال أبن مظعون علامة يهتدي بها الزائر لقبورهم. 
وهكذا أشادت الصحابة الكرام آثار نبيها المباركة وتبركوا بجميع ما حل فيه ظهرت فيه بركته من مجالسه حتى شادوا المزارات لمجالسه وآثاره المباركة في البوادي كمسجد الشجرة في الحديبية ومسجد مجلسه أمام العوسجة عند خيمة اُم معبد حتى تخيل من أعوزه الفقه في الدين وأثرى من عدم التفكير أنها ستعبد بتطاول الزمان كما عبدت الأشجار أهل الجاهلية فأمر بطمس تلك الآثار المباركة ومحوها فاُزيلت، الشيعة العلماء رفضوا هذه الحماقة وتركوا هذه الغباوة الفاضحة وأحيوا سنة النبي الهادي (ص) واقتفوا أثر الرسول المصلح وتبعوا سنة أصحابه الفقهاء الأخيار والأفاضل العلماء فشيدوا قباب آل محمد (ص) وتتبعوا آثارهم فجعلوا لها أعلاماً كما جعلت الصحابة لآثار النبي (ص) أعلاماً تُقصد وأبنية يلوذ بها المتوسلون إلى الله ويطوف بها ذوو الحاجات عنده.
ومن تلك الآثار التي أهتم الشيعة بتشييدها المزارات الأربعة لأبي الفضل العباس الأكبر أبن أمير المؤمنين (ع) وفي مزارات الحسين (ع) قد أشترك السنيون مع الشيعيين وفي تشييد بعضها والإنكار مكابرة كما ستسمع.للمؤلف:

باب الحسين أبو الفضل بن حيدرة

الله شاد له أسمى مزارات

ثلاثة بربوع الطف عمرها

بالزائرين وفرداً عند شامات

فأصبحت مثل بيت الله طاف بها

من كل فج اُناس أهل حاجات

مزار كفيه معروف ومشهده

ملاذ زواره في كل أوقات

ترى الملوك على أبواب حضرته

ترمي بتيجان تمليك ثمينات

كم لاذ في مرقد العباس من ملك

وذل في بابه من آمر عاتي

ومشهد الرأس في الشامات تقصده

أهل الحوائج في كل العشيات

صلى الإله على العباس كم ظهرت

في قبره من كرامات وآيات

عناية الله طول الدهر تحرسه

إلى النشور وحتى حشر أموات

وكل من عرف الرحمن نيته

بمحض إخلاص تقريب وطاعات

أعطاه ما لا رأيت عين ولا سمعت

اُذن فواضل نعماء وخيرات

فخلد الله في الدنيا لذكرهموا

وفي المعاد حباهم خير جنات

قد أوقفنا التاريخ على خبر محزن ونبأ مقلق وهو أن الحسين والعباس (ع) وزعا أوصالاً بالسيوف وقطعا آراباً بحدود الأسلحة. وصرح لنا التاريخ بأن الحسين (ع) اُبين من جسده الشريف أربعة أعضاء: إصبعه الذي قطعه بجدل بن سليم الكلبي لأجل الخاتم، وكفاه اللذان قطعهما الجمال على التكة، ورأسه الذي قطعه الشمر أو سنان أو خولي او أخوه شبل على الخلاف.
والعباس(ع) قد قطع كفه اليمنى حكيم بن الطفيل الطائي السنبسي، وقطع كفه اليسرى زيد بن رقاد المذحجي الجنبي، وقطع رأسه الشريف أيضاً، فنحن قد علمنا هذا من التاريخ فنريد أن نعرف أين دفنت هذه الأعضاء الكريمة المبانة.
وقبل أن اُحرر ما ذكره المؤرخ أبدي رأيي وإني لا أشك أن الأعضاء الشريفة المفصولة من الأجساد الطاهرة عدى الرؤوس دفنت مع الأجساد: أما إصبع الحسين (ع) وكفاه فلأنها لم ترمى بعيداً عن الجثة بل رميت إلى جنبها فدفنها مع الجثة واضح لا خفاء فيه، وأما كفا أبي الفضل فهما وإن وقعا ناحية عن الجثة وعدم وجود من يضمها إليها بعد القتل لكن الذي يقوى في الظن أنهما عند الدفن التقطا ودفنا مع الجثة، والمزاران المشهوران لهما إنما شيدا على موضع قطعهما، وقد ورد في بعض المقاتل أن الإمام زين العابدين (ع) التقط كفي عمه العباس ودفنهما مع جسده المبارك في الضريح.

مشهد رأس أبو الفضل العباس (ع)

اُعلمك أن الخلاف لم يجر في غير رأس الحسين (ع) ورؤوس بقية الشهداء ومنهم أبو الفضل العباس لا يجري فيهم هذا الخلاف وإنما يحصر الخلاف في مدافن رؤوسهم الشريفة في ثلاث مواضع: احدهما الشام، وثانيها بالمدينة حيث بعث يزيد بالرؤوس مع السبايا أو وحدها كما سمعت فدفنت بالبقيع، وثالثها وهو المشهور عند الإمامية أعادها زين العبادين (ع) فدفنها مع الأجساد الطاهرة في كربلاء، فكربلاء لهذه الهياكل القدسية ضمير أنفصال وأتصال، ومحور أفتراق وأجتماع، تفرقت فيها أعضاؤها بالسيوف وأجتمعت فيها تلك الاوصال، وأتصلت الرؤوس بالأبدان بعد الأنفصال.

مزار رأس أبي الفضل العباس (ع) بالشام:

قلنا: إن الخلاف في رؤوس شهداء كربلاء غير الحسين ينحصر في ثلاثة مواضع: بالمدينة وكربلاء وقد مضى ذكرهما في مشاهد رأس الحسين (ع) وبدمشق الشام. 
ذكر السيد محسن الأمين العاملي الفاضل المعاصر في كتاب أعيان الشيعة تحت عنوان ((مشهد رؤوس العباس وعلي الأكبر وحبيب بن مظاهر بدمشق)) ونصه(2): رأيت بعد سنة 1321 في المقبرة المعروفة بمقبرة باب الصغير بدمشق مشهداً وضع فوق باب صخرة كتب عليها ما صورته: هذا مدفن رأس العباس بن علي ورأس علي بن الحسين الأكبر ورأس حبيب بن مظاهر ثم إنه هدم بعد ذلك بسنتين هذا المشهد واُعيد بناؤه واُزيلت هذه الصخرة وبني ضريح داخل المشهد ونقش عليه أسماء كثيرة لشهداء كربلاء ولكن الحقيقة أنه منسوب إلى الرؤوس الشريفة الثلاثة المقدم ذكرها بحسب ما كان موضوعاً على بابه كما مر. وهذا المشهد الظن يقوى بصحة نسبته لأن الرؤوس الشريفة بعد حملها إلى دمشق والطواف بها وأنتهاء غرض يزيد من إظهار الغلبة والتنكيل بأهلها والتشفي لا بد أن تدفن في إحدى المقابر فدفنت هذه الرؤوس الثلاثة في مقبرة باب الصغيرة وحفظ محل دفنها، والله أعلم، إنتهى.
ويناقش هذا السيد في أمرين: 
أحدهما: قوة ظنه تصادم النصوص المصرحة بأن الرؤوس نقلت إلى المدينة ودفنت بالبقيع والنصوص المصرحة بأن الرؤوس الشريفة اُعيدت إلى الجثث بكربلاء ولا قيمة للظن في قبال النص فإذن هذا المشهد بني على أساس صلبها بهذا الموضع أو أنها دفنت إلى حين رجوع السبايا فنبشت واُعيدت إلى الجثث أو دفنت بالبقيع. 
ثانيهما: حصر النسبة لهذه الرؤوس الثلاثة المقدسة لا مبرر له من نقل ولا من عقل، والذي كتب على الصخرة لا يدل على الحصرة في هذه الثلاثة وإنما كتبت أسماء هؤلاء الثلاثة لجلالتهم وأنهم رؤساء الشهداء وأعيانهم فنسب المشهد إليهم ورؤوس الباقين معهم كما أشتهر المرقد الشريف الذي يلي رجلي الحسين (ع) بأسم علي الاكبر وباقي شهداء بني هاشم معه بالأتفاق. فإذن الحق مع ما نقش على ضريح هذا المشهد إذ لا معنى لدفن رؤوس هؤلاء الثلاثة في هذا الموضع وتبعيد غيرهم عنهم فإما أن تحكم بدفنهم هنا فأحكم بدفن الجميع، وإن قلت بالنقل فقل بنقل الجميع.
للمؤلف:

أقدارهم عظمت وجلت فأنتمت

كل البلاد لفخرها ترجو ألسنا

حتى أدعت مثوى الرؤوس بأرضها

مصر وأرض الشام كي تلق المنى

لكنما مثوى الرؤوس بكربلا

حقاً وتزعمه البلاد تيمنا

لا بأس فالتذكار فخر خالد

فلتعمر الأقطار فيه موطنا

من كان حياً أينما حييته

رد التحية هاهنا أو هاهنا

مزار الكفين لأبي الفضل العباس

قد اُسس في كربلاء مشهدان أو مزاران حوالي صحن العباس بن أمير المؤمنين رقم على أحدهما مشهد الكف اليمنى وعلى الثاني مشهد الكف اليسرى، وهذا شيء توارثه الخلف على السلف وتراث مجد خلفه الماضي للباقي وليست هذه الآثار من المحدثة ولا من الأشياء التي لم تبتنى على اُسّ قديم بل هي سائرة مع بقية آثارهم وتتعاهدها يد العمران أن طرقها طول الزمان بالتضعضع أو أشرف بها على الأنهيار فإذن هي صحيحة الإسناد الفعلي لا القولي إذ كل جيل يتبع الجيل السابق في أحترامها وتعاهدها بالعمارة والتنميق حتى تتصل بأول الأجيال التي اُشيدت بها مشاهدهم وقبابهم وهذا ما يسميه الناس بالسيرة العملية ويحتج بها الفقهاء على إثبات الأحكام الشرعية. 
فأنا من هذه الناحية على ثقة وبقين ولكني أقف حيران عند الناحية الاُخرى لا أدري ماذا أوقول دفن الكفان في هذين الموضعين وأنا أستبعد ذلك ولعلي لا أرى مجالاً للظن بأن من دفن جثه العباس (ع) لم يلحق بها الكفين مع قرب محلهما منها ولا حجاب حتى يقال إنهما لم يريا، ولا حاجة للأعداء بحملهما حتى نظن أنهم حملوهما ثم اُعيدا للبدن كما حفظت على ذلك آثار كثيرة على هذا الطراز.
وإن هذا التذكار لحري به أبو الفضل وجدير أن يشاد لكفيه مشهدان وقد تتبعنا التاريخ فلم نجد من قطعت كفاه على اللواء غير أربعة رجال: ثلاثة مؤمنون وواحد مشرك. والمؤمنون أثنان من آل أبي طالب وواحد من بني عبد الدار. فالمشرك صواب عبد لآل عبد الدار. والمؤمنون مصعب بن عمير صاحب رسول الله (ص) من آل عبد الدار كان معه لواء النبي (ص) وجعفر بن أبي طالب المعروف بالطيار وأبو الفضل العباس حامل لواء الحسين (ع) وخذ قصصهم على الأختصار:

حديث صواب بعد قتل مواليه على لوائهم:

قال أبن هشام في سيرته(3): قال أبن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن اللواء لم يزل صريعاً حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية فرفعته لقريش فلا ذؤابة وكان اللواء مع صواب غلام لأبي طلحة حبشي وكان آخر من أخذه منهم فقاتل به حتى قطعت يداه ثم برك عليه وأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه وهو يقول: اللهم هل أعذرت، يقول: عذرت. فقال حسان بن ثابت في ذلك:

فخرتم باللواء وشر فخر

لواء حين رد إلى صواب

جعلتم فخركم فيه بعيد

والأم من يطأ عفر التراب

ظننتم والسفيه له ظنون

وما أن ذاك من أمر الصواب

بأن جلادكم يوم التقينا

بمكة بيعكم حر العياب

أقر العين إن عصبت يداه

وما أن تعصبان على خفاف

ثم شعراً لحسان يذكر فيه الحارثية وحملها لواء قريش وهذه القصة يوم اُحد وقتله أمير المؤمنين (ع) وليس هذا موضع تفصيل لقصة.
روى كثير من العلماء ذكر هذه القصة المحزنة والحادث المؤلم ومنهم أبن شهرآشوب ونصه من المناقب(4): كان العباس السقا قمر بني هاشم صاحب لواء الحسين (ع) وهو أكبر الإخوان مضى يطلب الماء فحملوا عليه وحمل عليهم وجعل يقول:

لا أرهب الموت إذا الموت رقا

حتى اُوارى في المصاليت لقا

نفسي لنفس السيد الطهر وقا

إني أنا العباس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشر يوم الملتقى

ففرقهم فكمن له زيد بن رقاد الجهني من وراء نخلة وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي فضربه على يمينه فأخذ السيف بشماله وحمل عليهم وهو يرتجز:

والله إن قطعتموا يميني

إني اُحامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق يقيني

نجل النبي الطاهر الأمين

فقاتل حتى أضعفه فكمن له حكيم بن الطفيل الطائي من وراء نخلة فضربه على شماله فقال:

يانفس لا تخشي من الكفار

وأبشري برحمة الجبار

مع النبي السيد المختار

قد قطعوا ببغيهم يساري

فاصلهم يارب حر النار

فقتله الملعون بعمود من حديد فلما رآه الحسين (ع) مصروعاً على شط الفرات بكى، ألخ.
قد فصلنا القصة في شهادته (ع) وذكرنا حديث الصدوق عن الإمام زين العابدين أن الله تعالى جعل لعمه العباس كما جعل لجعفر جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة.
وعلى ما صرح به أرباب المقاتل من سقوط كل كف له (ع) تحت نخلة في ناحية من نواحي المسناة فإذاً المزاران المعروفان لها حوالي صحنه الشريف شيّدا على أساس هذا الحديث في شهادته (ع) حيث أن يده المينى قطعت وهو صادر من المشرعة طالباً للخيم كي يوصل الماء لعيال الحسين (ع) فعارضوه فقطع يده اليمنى زيد بن رقاد المذحجي ثم الجنبي. ولما قطعت تقدم إلى أخيه فعارضه أيضاً حكيم بن الطفيل الطائي السنبسي فقطع اليسرى ومذ أمنوا بقطع يديه صدوه بجماهيرهم المتكاثفة عن الوصول إلى الخيمة وأرجوه قليلاً إلى الوراء وهنا ضربوه بالعمود الحديد فسقط حيث مشهده الآن قرب مشهدي الكفين الشريفين كما حدثنا التاريخ ورسمه لنا الأثر الباقي إلى اليوم. وصفة المزارين كما يلي:

مزار الكف اليمنى:

في جنوب الصحن العباسي (ع) قريب من باب الصحن الشرقي وهو مشهد ملصق بالجدار عند مفترق أربعة طرق حوله بعض حوانيت وعليه شباك نحاس صغير مقفل بقفل ونقش عليه بيتان بالفارسية نصها:

أفتاد دست راست خدايا زبيكرم

بر دامن حسين برسان دست ديكرم

دست جبم بجاست اكر نسيت دست راست

أما هزار حيف كه يك دست بي صداست

ولا تاريخ للشعر ولا لبناء المشهد، وعلى لوحه رسم كفين متقابلتين نقشتا بالقاشاني والطريق إليه أن تخرج من صحن العباس (ع) الواقع في ركن الصحن ويعرف بباب الرحبة فإذ خرجت منه أنعطفت إلى شارع على يمينك ملاصق لباب الصحن فتمر فيه مجتازاُ بشارع آخر ينفصل منه أيضاً على يمينك فتدعه وتمر في نفس الشارع الكبير الذي أنت فيه حتى تمر بشارع ثاني إلى يمينك ايضاً فتسلكه متجهاً إلى مدرسة البنات الأبتدائية المسمات بالعباسية حتى تنتهي إلى بقالين على منتصف الشارع ويقع المشهد الشريف خلف حائط دكان البقال الذي على يسارك في الركن بين شارعين وله طريق آخر على مشهد الكف اليسرى.

مزار الكف اليسرى:

في المشرق من الصحن الشريف في السوق الذي يحاذي باب القبلة ويعرف بسوق باب العباس الصغير وعلى جداره الكاشاني شباك من النحاس الأصفر المسمى (شبه وبرنج) منقوش في الكاشي أبيات شعر تنسب للشيخ محمد السراج هي هذه:

سل إذا ما شئت وأسمع وأعلم

ثم خذ مني جواب المفهم

إن في هذا المقام أنقطعت

يسرة العباس بحر الكرم

هاهنا ياصاح طاحت بعدما

طاحت اليمنى بجنب العلقمي

إجر دمع العين وأبكيه أساً

حق أن تبكي بدمع عن دم

ويظهر من الشعر لمن تأمله أن الموضعين اُشيد فيهما البناء تذكاراً لسقوطهما فيهما لا أنهما دفنا فيهما وهذا كله نقوله ونراه جلياً في الواقف على هذين المزارين يتذكر كيف قطعت يمنى العباس ويسراه وكيف ضم الباقي منهما عليا للواء. وإذا وقف على ضريحه المقدس ليذكر كيف فلقت هامته بعمود الحديد وكيف سقط على ضفاف العلقمي يفحص برجليه التراب فالواقف على مزار الكف اليمنى كأنه يرى ويشاهد بريق سيف الشقي زيد بن رقاد وحده المخالط لعضو أبي الفضل الأكرم، والواقف على مزار الكف اليسرى كأنه يلحظ بعينيه سيف التعيس حكيم بن الطفيل يطيح به ذاك العضو المشرف. للمؤلف:

يمناك للجيران يمن وفي

يسراك يسرى دائماً للنزيل

جئت لنهر العلقمي صائلاً

كضيغم قد هاج من وسط غيل

ملكت نهر العلقمي عنوة

يابطل العرب بحد الصقيل

ملأت بالرغم لهم قربة

من مائه العذب الروي السليل

قصدك تسقى منه أهل الكسا

وكل عطشان لطه سليل

فّتت أكباد بني المصطفى

حر الظما كي تطفي منها الغليل

فأحتو شوك القوم بعداً لهم

وهدت الأرض لعظم الصهيل

فالفوج يتلو الفوج في زحفهم

وأنت كالضرغام بين الرعيل

حتى صبغت الأرض من هامهم

وخضت بالأشقر ذاك المسيل

ويح أبن رقاد فماذا جنى

بقطع يمناك بضب صقيل

وطاحت اليسرى التي يسرها

عم بسيف المعتزي للطفيل

والرأس من عاموده قد جرا

مع الدم المخ فأمسى يسيل

ورحت ظمئآن الحشا عاطشاً

تسقى من الكوثر والسلسبيل

كل مزار لأبن حامي الحمى

عميد جيش ابن النبي الجليل

فهو لمن لاذ به والتجى

نعم الحمى للمحتمي والمقيل

من اُسرة الوحي وما مثلهم

في سائر الخلق وعز المثيل

فالوحي والتنزيل في دورهم

ينزل فيه دائماً جبرئيل

يهدي التحايا لهم دائماً

من حضرة القدس العلي الجليل

الطريق إلى مشهد الكف اليسرى لأبي الفضل هو أن تخرج من باب صحن العباس الشريف في الجنوب الشرقي وهو في جهة القبلة على سمت باب الساعة فإذا خرجت من هذه الباب الصغيرة سرت قليلاً في شارع قصير يدخلك إلى سوق صغير يعرف بسوق العطارين فتجد هناك صف القصابين وقبل الوصول إليهم تقف عند باب دكان عطار يعرف بالسيد عباس فتجد المشهد المبارك خلف حائط دكانه وعليه رسم كف واحدة وصفتها صفراء طليت بالصبغ الأصفر المعروف بالبويه. وإذا سرت من هذا الطريق متجهاً إلى الجنوب الشرقي أو صلك إلى مشهد الكف اليمنى وهذا الوضع للمشهدين يفصح عما ذكره التاريخ أن العباس (ع) خرج من الفرات قاصداً مخيم الحسين (ع) فأعترضه زيد بن رقاد الجنبي فقطع يمينه فسار على قصده حاملاً سيفه بيساره فأعترضه حكيم بن الطفيل السنبسي فقطع يساره فسار على قصده فضرب بعامود الحديد فسقط في موضع مشهده المقدس.

مثوى العباس المقدس

والمرقد المنيف العامر بعناية الله تعالى وحراسته قد تلونا عليك صفحة من تاريخ عمارة المشهد الحسيني ويشاركه مرقد أخيه أبي الفضل في كثير منها وقد كانت خصوصيات أختص بها أبو الفضل كما أختص أخوه الحسين (ع) بهدايا وتحف وألطاف وأمثال ذلك مما يلزمنا أن نقتضب عنواناً نخصصه بعمارة مشهد أبي الفضل وبعض ما أسداه الملوك والتجار الكبار من الخدمة له وخذ ملخصها: 
في سنة 1032 من الهجرة النبوية بني الشاه طهماسب قبة العباس بالكاشي وجعل على صندوق الضريخ المقدس شباكاً من الحديد ونظم الرواق والصحن وبنى البهو أمام الباب المقدم للحرم وأهدى إلى مشهده الشريف فرشاً من صناعة الإيرانيين الممتازة وتطلق عليها العوام إسم الزل.
وفي سنة 1155 في عصر نادر الشاه الأفشاري نقشت بعض الاروقة بالبلور على نفقه نادر شاه وأهدى إلى حرم العباس هدايا وتحفاً. 
وفي سنة 1117 زار العتبات المقدسة وزير نادر شاه فجدد صندوق الضريح وعمر الرواق واهدى ثريا للضياء ليوقد فيها الشمع في صحنه المطهر.
وفي عام 1136 أمر الشاه محمد بن ميرزا القاجاري بتبديل الشباك الحديدي بالفضي فصنع كما أمر. 
وفي عام 1259 أحدث عمارة في المشهد الشريف العباسي سلطان أود الهندي وهو محمد علي شاه بن السلطان ماجد علي شاه. 
وفي سنة 1216 بعد النكبة الموجعة والحداثة النكراء وهجوم الوهابية على كربلاء المقدسة وما أحدثوا فيها من شنائع الأعمال وفظائع الأعمال وتعديهم على الحرمين الشريفين بالتخريب ونهب الذخائر والنفائس والمجوهرات التي يعز وجودها عند عظماء السلاطين نهضت بالشاه فتح علي حميته وأقامته محبته الخالصة لأهل البيت فبنى قبة الحسين وصدر الأيوان بالذهب وجعل للضريح صندوقاً وشباكاً من الفضة وبنى قبة العباس بالكاشي البديع.
بنى الحاج شكر الله الأفشاري أيوان الطارمة التي لأبي الفضل بالذهب وكتب إسمه في صدر الأيوان بالذهب وذلك بمساعي الفقيه المرحوم الشيخ زين العابدين المازندراني نزيل كربلاء المتوفى بها سنة 1309 وتاريخ التذهيب 1309. 
ثم إن نصير الدولة ذهب منارة العباس وكان الصائغ يغش الطلاء الذهبي بالصفر ولما وقفوا على الحقيقة أستدعوا به فجيء به من بغداد إلى كربلاء فلما دخل صحن العباسي أضطرب وأسود وجهه ومات من الغد.
وإن التذهيب لإيوان الباب الأول لمدخل قبة العباس لملك لكناهور محمد شاه، وبناء القبة بالكاشاني الموجود الآن لمحمد صادق الأصفهاني وزاد في الصحن دوراً أشتراها وتسقيف الطارمة للسلطان عبد الحميد خان وجعل السيد مرتضى سادن الروضة العباسية باباً من الفضة ومن الباب المتوسط من الأبواب الثلاثة التي في الطارمة. 
وفي سنة 1266 جاء تاجر زنجاني برخام ففرش الحضرة والصحن بذلك الرخام وجلب الصناع معه من إيران وكان التاجر يعرف بالحاج محمد حسين ويلقب بالحجاز باشي كما حدثني الخطيب الاُستاذ الشيخ علي بازي قال: طلب مني السيد حسن كليدار الروضة العباسية أن أنظم أبياتاً وفيها تاريخ ورود الرخام وأنتهاء العمل في سنة 1366 فنظمتها ومن خطّه نقلتها:

ذا رخام لم يشاهد مثله

بل ولما يكتشفه من أحد

صبغة الله ومن أحسن من

صبغة الله له صبغة يد

هو من إيران قد جاء به

خيرة الحاج الهمام المعتمد

لقب (الحجار باشي) لما

حاز من أيد حسام لا تعد

حقق الله أمانيه غداً

وهنيئاً لفتى ينجوا بغد

من أخ السبط وآل المصطفى

سوف يجزي بنجاح مطرد

فحسين فيه أرخت إلى

بطل الطف أبي الفضل

مقتبس من كتاب (بطل العلقمي) للعلامة الشيخ عبدالواحد المظفر


1ـ الحج: 32.
2ـ أعيان الشيعة 4/ 209 قسم أ.
3ـ سيرة أبن هشام 2/303.
4ـ مناقب أبن شهرآشوب 4/972.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة