الحمد لله أناء الليل والنهار، واشرف الصلاة على النبي المصطفى المختار، وعلى آله الهداة الابرار.
اخوتنا الاكارم .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، واهلاً بكم في لقاء جديد، وموضوع جديد، في خصلة خطيرة بل هي من اخطر ما يبتلى به المرء في اخلاقه .. الا وهي الكبر فاذا كان في النفس الانسانية درجات في السمو كالتقوى والخير والتواضع، فان فيها درجات في التنازل كالشر والحسد والتكبر، وتعريف الكبر نتبينه ـ ايها الاخو الاعزة ـ من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: "ان اعظم الكبر غمص الخلق، وسفه الحق، فسئل عن معنى ذلك فقال: يجهل الحق ويطعن عليه اهله، فمن فعل ذلك فقد نازع الله عز وجل رداءه".
ونتبين حالة الكبر من تعريف للامام جعفر الصادق عليه السلام حيث يقول: "من ذهب ان له على الآخرة فضلاً فهو من المستكبرين"، قال الراوي: قلت: انما يرى ان له عليه فضلاً بالعافية اذا رآه مرتكباً للمعاصي، فقال عليه السلام: "هيهات هيهات! فلعله ان يكون غفر له ما اتى وانت موقوف محاسب، اما تلوت قصة سحرة موسى عليه السلام"؟
قيل: الغمص: هو الاحتقار والاستصغار والسفه: هو الاستخفاف وعدم رؤية الامر على ما هو عليه من الرجحان والرزانة، اذاً فالكبر ايها الاخوة حالتان متلازمتان: الاول: استعظام النفس، والثانية: الاستخفاف بالآخرين والتعالي عليهم، ورؤية النفس فوق المتكبر عليه، وهو من نتائج العجب.
وقد تتفاقم رذيلة الكبر حتى تتجاوز حدوداً يشعر معها المتكبر انه يتصف ببعض صفات الالوهية، فينظر الى نفسه انه فوق الخلق، وانه يفضل عليهم، ويتفضل بكل شيء عليهم .. فيستحق بذلك العذاب الالهي الرهيب، يقول الله تعالى في حديثين قدسيين شريفين:
"الكبرياء ردائي، والعظمة ازراري فمن نازعني واحداً منهما القيته في جهنم ولا ابالي"
ونقرأ في كتاب الله تعالى كيف يهدد المستكبرين عن عبادة الله وعباده: "فادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها، فلبئس مثوى المتكبرين" (سورة النحل: ۲۹). "ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" (المؤمن: ٦۰).
وفي حديث للامام الصادق عليه السلام يقول فيه: "ان المتكبرين يجعلون في صور الذر يتوطأهم الناس.. حتى يفرغ الله من الحساب". وفي حديث آخر قال عليه السلام: "ان في جهنم لوادياً للمتكبرين يقال له "سقر"، شكا الى الله عز وجل شدة حره، وسأله ان يأذن له ان يتنفس، فتنفس فاحرق جهنم".
ايها الاخوة الافاضل .. ان الكبر خلق نفسي، وعلة باطنية في اعماق الانسان تنعكس على سلوكه، فما هي بواعث الكبر يا ترى:
في غرر حكمه، ودرر كلمه .. يقول الامام علي عليه السلام:
كل متكبر حقير. لا يتكبر الا وضيع خامل.
وفي بيان خفايا الكبر وباعثه، قال الامام جعفر الصادق سلام الله عليه: "ما من رجل تكبر او تجبر الا لذلة وجدها في نفسه".
وهنا يطرح علماء الاخلاق هذه التساؤلات: اذا كان الانسان كبيراً فلماذا يتكبر؟ واذا كان عظيماً فلماذا يتعاظم؟ لابد ان ذلك منبعث من نقص يشعر به وضعة بينة في نفسه يعانيها، فيسد ذلك بالتكبر والتعاظم لكنه لا يدري انه انما اضاف الى نقصه نقصاً آخر، وانه جنح في ارتقاء رقاب الناس سلم الخيال لا الواقع.. وانه افرز ـ وهو لا يعلم ـ نوازع العجب والرياء والحقد والحسد معاً، فرأى نفسه اقصر همة من نوال الفضائل فتقمصها خيالاً بالكبر .. وقد يكون الخيال ضرباً من الجنون.
مر رسول الله صلى الله عليه وآله يوماً على جماعة ينظرون الى رجل يصرع قالوا انه مجنون، فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله قائلاً: "ليس هذا بمجنون ولكنه المبتلى.. الا اخبركم بالمجنون حق المجنون"؟! قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه، المحرك بمنكبيه، يتمنى على الله جنته وهو يعصيه، الذي لا يؤمن شره ولا يرجى خيره..
اخوتنا الاحبة، جاء عن امير المؤمنين عليه السلام في تحذيره من الكبر، قوله: "اياك والكبر فانه اعظم الذنوب، والام العيوب، وهو حلية ابليس". وهنا يتساءل امرؤٌ عاقل: كيف الخلاص من الكبر بعد ان علمنا مذموميته، وخطورته؟ قال علماء الاخلاق: علاجه في جانبين: نظري وعملي.. الاول: ان يتفكر الانسان انه مخلوق ضعيف، وانه اقل من ان يتكبر ومآله الى الموت. يقول الامام علي صلوات الله عليه: عجبت لابن آدم اوله نطفة وآخره جيفة، وهو قائم بينهما وعاءً للغائط، ثم يتكبر.
وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله: ما اعظم كبر فلان فقال: اليس بعده الموت؟.
وما يدرينا ايها الاخوة الاعزة ما الموت وما بعد الموت؟! وما البرزخ وعوالمه وما بعد البرزخ وما اهواله؟! أمر هارون الرشيد ـ وكان ذا كبر وجبروت ـ باخراج سجلات له، فاذا بهذه الابيات لا يدري من وضعها له:
هل انت معتبر بمن خليت
منه غداة مضى دساكره
وبمن اذل الموت مصرعه
فتبرأت منه عشائره
وبمن خلت منه اسرته
وبمن خلت منه منابره
يا مؤثر الدنيا بلذته
والمستعد لمن يفاخره
نل ما بدا لك ان تنال من
الدنيا فان الموت آخره
والجانب العملي في علاج الكبر ان يتواضع الانسان للاخرين مقتدياً بالانبياء والاولياء(ع) ويلوم نفسه ولا يراها تخرج يوماً عن التقصير والقصور، ولا يرى احداً اقل منه ويتعامل مع الناس بروح الاخوة واللين والرفق، ويدعو الله تعالى بدعاء مكارم الاخلاق للامام السجاد عليه السلام وفيه يقول: "اللهم صل على محمد وآله، واكفني ما يشغلني الاهتمام به، واستعدادي بما تسألني غداً عنه، واستفرغ ايامي في ما خلقتني له، واغنني واوسع عليَّ في رزقك ولا تفتنني بالنظر واعزني ولا تبتلني بالكبر وعبدلي لك ولا تفسد عبادتي بالعجب، واجر للناس على يدي الخير، ولا تمحقه بالمن وهب لي معالي الاخلاق واعصمني من الفخر.اللهم صل على محمد وآله ولا ترفعني في الناس درجة الا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً الا احدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها".
الراوي: روي ان رجلاً في بني اسرائيل كان يقال له "خليع بني اسرائيل" لكثرة فساده، مر يوماً برجل يقال له "عابد بني اسرائيل" لكثرة عبادته، وكانت على رأس العابد غمامة تظله، فلما مر الخليع به قال في نفسه:
العابد: انا خليع بني اسرائيل وهذا عابد بني اسرائيل، فلو جلست اليه.. لعل الله يرحمني به.
العابد: انا عابد بني اسرائيل، وهذا خليع بني اسرائيل كيف يجلس هذا الي؟!
العابد: قم عني ايها الخليع.
الراوي: فاوحى الله تعالى الى نبي ذلك الزمان ان مرهما فليستأنفا العمل، فقد غفرت للخليع، واحبطت عمل العابد.
الراوي: روي ان ملكاً تسلط على احدى البلدان بالظلم والجور، وكان جباراً متكبراً فورد عليه احد الفضلاء يعظه وينصحه:
الواعظ: ايها الملك اذا كنت في صحراء منقطعة عن الناس، واشرفت على الموت من شدة الظمأ اتبيع نصف ملكك وسلطانك باناء من الماء؟
الملك: اجل هذا لا شك فيه، سابيع نصف ملكي لانقذ بذلك حياتي من الهلاك.
الواعظ: حسناً ولو كنت بعد ذلك قد اصبت باحتباس البول، وكدت ان تهلك من ذلك، اكنت تبيع نصف ملكك الآخر، لطبيب يعالجك؟
الملك: نعم نعم، لا شك في ذلك، سابيع النصف الاخر من ملكي لابقي على حياتي، فما قيمة الملك مع الموت؟ ماذا تريد ان تقول يا رجل؟
الواعظ: اردت ان اقول ـ ايها الملك ـ ان ملكك هذا كله لا يساوي الا: شربة ماء وبركة من بول!
الراوي: عند ذاك انتبه الملك الى نفسه واتعظ بما نبهه اليه ذلك الواعظ الذي لما رأى من ضعفه الذي لا يناسبه الكبر والغرور.