ان تلال «جوهر رود» الاثرية ومنها تل «مارليك» هي في الحقيقة بمثابة مدفن لبقايا حضارة تاريخية منسية.
ان تل مارليك والذي يزخر بكنوز قيمة رائعة من الفن والحضارة والبشرية على مدى قرون وعصور متمادية، انما هو تل طبيعي صخري متكون من أحجار كبريات الحديد، وتسببت طبيعة الطبقات الداخلية والسفلية لهذا التل في ظهور حفر وشقوق كبيرة؛ ما جعل حيوانات وزواحف كالفئران والحيات تعشش في مثل هذه الحفر المنقورة بوفرة.
وهناك احتمالٌ بأن هذا التل كان مقبرة تخص الأمراء والولاة والحكام الذين كانوا يحكمون على هذا الاقليم في أواخر الالفية الثانية وبداية الألفية الأولى قبل الميلاد، ووفقاً للتقاليد والآداب التي كانت منتشرة آنذاك، كان الناس يوارون جثامين موتاهم الثرى مع أدواتهم القيمة في مثل هذه المقابر.
وإثر عمليات التنقيب عن الآثار التي اجريت في ثلاثة أرباع تل مارليك، تم العثور على نحو 25 مقبرة مع غرف المقابر فضلاً عن اكتشاف أشياء وأدوات مدفونة مثل أوان برونزية وفخاريات وأزرار مزخرفة وأنواع الصولجان والسهام والرماح والسيوف والخناجر ورؤوس الحراب وتماثيل برونزية وخزفية، وخوذة وإبر من الذهب والبرونز وكذلك صور ونقوش عن الانسان والنباتات وحيوانات مثل ثور مسنم ومجنح وفرس ذي قرن ولعب للأطفال ومغزل للحياكة وغيرها من الأدوات، ما يدلنا على عمق الحضارة والثقافة والمناهج والوسائل التي كان سكان هذه المنطقة يعتمدون عليها ناهيك عن مدى اعتقادهم بقضية الحياة بعد الموت.
كما تؤشر الأقمشة المكتشفة في تل مارليك الاثري عن وجود صناعة الحياكة وتطورها في جيلان منذ آلاف السنين.
ومن أبرز المكتشفات الاثرية في هذا التل، خاتم منحوت بالخط المسماري أو خاتمٌ منقوش يصور موضع صيد، ويعود تاريخ هذين الخاتمين، حسب خبراء علم الآثار، الى ما يتجاوز ثلاثة آلاف سنة، الا أن النموذج الرائع والفريد من بين هذه المكتشفات، هو كأس مارليك المصنوعة من الذهب الصافي والتي يبلغ ارتفاعها 18 سنتيمتراً. كما يصل ارتفاع النقوش البارزة على هذه الكأس إلى ما يزيد عن سنتيمترين؛ ما يرمز الى خبرة ومهارة صانع الكأس ومن خلال ضربات مطرقته عليها. ان النقش الذي يتوسط هذه الكأس هو عبارة عن شجرة حياة تظهر في جانبيها بقرتان مجنحتان وهما تصعدان الشجرة.
ومن السمات التي يتميز بها الفن الايراني وتعبر عن هوية صانع الكأس الايراني هي عرض جسم الحيوان بشكل شبه وجه وكذلك عرض رأس الحيوان من الجهة الأمامية. هذا ونقرت في قاع الكأس وردة جميلة، تتخللها شمسٌ ترسل اشعتها بصورة منتظمة.
وكانت للشمس مكانة مهمة عند قوم مارليك الى درجة التعبد لها، وقاموا على قدر استطاعتهم بتصوير رمز الشمس على قاع اكثر الأواني والكؤوس وذلك على شكل يسمى ألترنج هندسي مزخرف. ولو امعنّا النظر في نوع هذه النقوش وطريقة رسمها لوجدنا أن الشمس تقع في قلب كل شيء وتتمحور حولها كل الأشياء وتقوم حياة الكائنات جميعها على اساس ضوء الشمس وحرارتها المنعشة.
وبما أن الانسان اكتشف المعادن في الألفية السادسة قبل الميلاد، إلا أن من الانجازات المهمة التي تفتخر بها حضارة مارليك هي المصنوعات المعدنية وتحديداً المصنوعات البرونزية. وبسبب توفر مناجم الأحجار المعدنية وكذلك مصادر وقود وفيرة مثل الخشب، شهدت عملية انتاج البرونز ازدهاراً بارزاً، ما أدى بدوره الى إنشاء ورشات عمل للصناعة البرونزية.
ومن أحد المنجزات الحضارية المزدهرة الأخرى المرتبطة بتل مارليك الاثري هو العثور على كؤوس زجاجية تعدّ أولى النماذج البشرية في صناعة الزجاج.
وهناك سؤال يطرح نفسه: الى أين تنتهي أخيراً هذه الحضارة الراقية؟ للاجابة على هذا التساؤل، يعتقد خبراء علم الآثار بأنه وبسبب وجود تشابه كبير فيمابين المكتشفات في موضع مارليك وما تم العثور عليه في تلال سيلك على مقربة من مدينة كاشان وخاصة الأدوات والأواني البرونزية المكتشفة، هناك احتمالٌ كبيرٌ بأن اهالي سيلك هم كانوا سكان مارليك الذين هاجروا الى منطقة سيلك بعدما شن الأشوريون هجمات عليهم ومن ثم التحقوا بركب الماديين الذين كانوا من الأقوام الهندية الايرانية، فكانت لهم مشاركة في المراحل الأولى لانشاء الحكومة المادية وقاموا أخيراً وبمساعدة باقي الاقوام والجماعات الهندية الايرانية القوية، قاموا بتأسيس امبراطورية الماد العظمى في اوائل الألفية الأولى قبل الميلاد.
جدير بالاشارة الى ان مقتنيات تل مارليك الاثري يتم الاحتفاظ بها في الطابق العلوي للمتحف الوطني الايراني في العاصمة طهران.