البث المباشر

معسكري النور والظلام

الأربعاء 9 أكتوبر 2019 - 14:08 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 65

 

مع إطلالة الصباح.. نهضت القافلة تتابع طريقها الصعب، نحو الكوفة.. ودعت موقع (شراف) الذي قضت فيه ليلتها، لتضعن مع الشمس التي راحت تتعالى في أفق السماء...
كان الجميع يتطلع الى الطريق.. لكنه من بينهم، كانت عيناه مشدودتين باستمرار باتجاه الأفق البعيد...
وبلغت الشمس كبد السماء وتفاقمت حرارتها... واقتربت القافلة من جبل ذو حسم... فارتفع فجأة صوت الرجل مكبراً... فالتفت أصحاب الحسين الى رفيقهم مستفهمين، فيما كبر الحسين هو الآخر، ثم سأل:
- لم كبرت..؟ ...فأجاب مشيراً بيده، وعلائم السرور تغمر وجهه:
- رأيت النخيل... وهو يحسب أنهم قد وصلوا الكوفة...
فرد عليه أحد رفاقه:
- ليس في هذه الأرض نخلة قط..! ...فتساءل الحسين (ع):
- ما ترون إذن؟! ...أجاب أكثر من واحد:
- نراه والله آذان الخيل، كناية عن كثرة الخيل وكثافتها...
فقال الحسين:
- أنا والله أرى ذلك..! ...ثم وبحسه القيادي اليقظ سارع الى توجيه أوامره العسكرية بالإتجاه يساراً نحو الجبل...
ورويداً رويداً... اتضحت معالم القافلة المقبلة... ولم يعد أحد يشك انه الجيش الأموي...
وازاء حركة القافلة التي استحثت خطواتها الثقيلة، راحت خيل العدو تتسابق لإعتراضها، ومنعها من بلوغ الجبل...
بيد أن القافلة الحسينية بلغت مرامها، قبل وصول الجيش اليها...
الى الجنوب الغربي من مدينة الكوفة.. حيث ارتفع جبل "ذوحسم"، التقت طلائع الجيش الأموي بقيادة الحر بن يزيد الرياحي بقافلة الحسين(ع)...
كان الجيش في حالة مزرية... فحرارة الظهيرة... والهواء اللاهب، احالا الصحراء الى اتون متقد... وبُعد مواقع الماء ونفاده لدى الجيش، اوشك أن يدفع جنوده الى التقاتل فيما بينهم عليه... إضافة الى طول المدة التي قضاها متربصاً بقافلة الحسين في الصحراء... وما عاناه من انهاك جسدي ونفسي خلال ذلك.
وأمام هذا المشهد المؤثر... مشهد الإنسان الذي يكاد يقتله الظمأ.. مشهد الحيوان اللاهث المتضور من شدة العطش... تفجر الينبوع الحسيني...
فوقف أبوعبدالله هاتفاً بمن معه:
- أسقوا القوم وارووهم من الماء... ورشفوا الخيل ترشيفاً، أي اسقوها قليلاً.
أقبل الجنود على الماء يعبونه عباً... فيما اقترب الحر – بعد ان ارتوى – من الحسين... فمال عليه (ع) وسأل:
- ألنا أم علينا..؟ ...فرد الحر متجنباً النظر الى وجه الحسين:
- بل عليك يا اباعبدالله...! ...فقال الحسين:
- لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..! ...رمق قرص الشمس بطرفه، قبل أن يأمر أحد أصحابه بالأذان للصلاة...
ووقف الحسين يأم الصلاة... والتحق الحر وكثير من جنده بصفوف المصلين... وتعالت كلمات الضراعة الحارة الندية من شفاه أبي عبدالله، فيما تحدرت الدموع من العيون... وحلقت الأرواح الى عوالم ملكوتية بعيدة وطافت أشواطاً لا تعد وهي تسبح في لجة من نور...!
وبانتهاء الصلاة، تهادى روح الحسين الجائش، ثم سكن... قبل أن ينهض متوجهاً للمصلين قائلاً:
- أيها الناس، إنها معذرة الى الله واليكم، اني لم آتكم حتى اتتني كتبكم ان اقدم علينا، فانه ليس لنا امام...!
فقاطعه الحر قائلاً:
- والله ما أدري ما هذه الكتب التي تذكر...! ...فجاء اصحاب الحسين بالرسائل التي بعث بها اهل الكوفة الى الإمام، فنثروها بين يديه... فقال الحر:
- انّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا اليك... وقد أُمرنا اذا نحن لقيناك ان لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على عبيد الله... فغضب الإمام وقال:
- الموت أدنى اليك من ذلك..! ...ثم التفت الى أصحابه وقال:
- قوموا فاركبوا..! ...فسارع الأصحاب الى امتطاء دوابهم... وتحركت القافلة... إلا ان الجيش أخذ عليها الطريق... فتقدم الإمام مخاطباً الحر بغضب:
- ما تريد..؟ ...ودار حوار عاصف للحظات... الا ان الحر تراجع ليأذن للقافلة بمعاودة سيرها... شريطة ان تأخذ طريقاً يجنبها دخول الكوفة أو العودة الى المدينة.
مضى النزع الأخير من الليل إلا قليلاً... والقافلة التي أمض بها التعب والعناء بعد أيام عديدة قضتها في الطريق الى الكوفة، تغط في أحضان نوم عميق...
رجلان فقط سهرت عيونهما من بين رجال القافلة، هما القائد... الحسين وإبنه علي الأكبر...
كان الحوار يدور بينهما فينة بعد فينة... إلا أن عينيهما مافتئت ترقب طليعة الجيش المعادي المرابطة أمامهما...
تأمل علي الأكبر وجه أبيه، فخاله شلالا متدفقاً من النور... دون أن تفت نظرته الفاحصة خيوط العناء والسهر كظلال خفيفة توزعت عليه هنا وهناك... وعاد يواصل الحديث:
- يا أبة...! لا أراك الله سوءاً... ألسنا على الحق؟!
حدق الحسين في عيني ولده... وقد لامست كلماته الندية شغاف قلبه... وتملى طلعته المشرقة التي كثيراً ما أحب النظر اليها... لا لأنها لإبنه وحسب، بل لأنها تذكره بجده العظيم محمد (ص)...
ارتسمت ملامح ابتسامة على وجهه، ثم نطق بيقين:
- بلى، والذي اليه مرجع العباد...!
تدفقت من عيني علي اشعة كينبوع الماء الصافي... فيما جرت على لسانه كلمات كاندفاع السيل الجارف...!
- فإننا إذن لا نبالي، ان نموت محقين...! ...أجاب الحسين مبتهج القلب:
- جزاك الله من ولد، خير ما جزى ولداً عن والده..!
وفيما كان الحديث متصلاً بين الوالد وولده... بدأ الفجر يرسل خيوطه الأولى من وراء غمامة سوداء مدلهمة...! فنهض الرجلان يوقضان أصحابهما للصلاة... فأمامهم طريق محفوف بالمخاطر والمفاجآت..!
تابعت قافلة الحسين طريقها مقتربة من كربلاء... وكان جيش العدو يسايرها... ومن بعيد ترآى للطرفين أربعة رجال مقبلين... حتى إذا ما اقتربوا، تصايح أصحاب الحسين:
- هذا عمرو بن خالد الصيداوي...! ونادى آخر:
- وهذا مجمع العائذي... ومعه إبنه...! ...وهتف ثالث:
- أجل والله...! هذا جنادة بن الحارث السلماني...!
وأقبل الرجال يشتدون في السير نحو الحسين... وهو (ع) وأصحابه يلاحقونهم بنظراتهم... وفي تلك اللحظة، انطلقت كوكبة من فرسان الجيش الأموي لتعترضهم... فوثب أبوعبدالله منادياً:
- لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي... إنما هؤلاء أنصاري وهم بمنزلة من جاء معي... ثم التفت الى الحر وقال، متوعداً:
- فإن بقيت على ما كان بيني وبينك... وإلا ناجزتك...!
فنادى الحر بجنوده، ان يكفو عنهم...
واُستقبل المجاهدون الجدد بفرحة غامرة... لكنها سرعان ما تبددت... فقد كان لآخر الأنباء التي حملوها من الكوفة وهم يتسللون منها ليلاً، صدى مؤلماً في نفوس الحسين وصحبه...!
ثم تابع أبوعبدالله ومن معه طريقهم... واجتازت قافلتهم عدة مواضع، حتى إذا ما بلغوا موضعاً سأل الحسين:
- ما اسم هذه الأرض؟ ...فقيل له كربلاء...! ...فقال:
- أهذه كربلاء؟! ...قال أصحابه:
- نعم يا ابن رسول الله..! ...فقال:
- هذا موضع كرب وبلاء... أنزلوا هاهنا مناخ ركابنا، ومحط رحالنا ومقتل رجالنا، ومسفك دماءنا...!
فنزلوا جميعاً... ونزل الحر وجنوده في الناحية المقابلة...
ولم يمر مزيد وقت حتى وردت رسالة للإمام من ابن زياد...
تناولها الإمام من الرسول وأطلع عليها ثم ألقى بها على الأرض، وهو يقول:
- لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق...!
فقال له الرسول الجواب يا أباعبدالله...! فأجاب الإمام:
- ما عندي جواب...!
ابن زياد الذي فوت عليه الحسين أي فرصة للإحتيال والغدر... راح يدفع بالجيوش نحو كربلاء، وكأنه يعد لمواجهة جيش جرار وخوض حرب فاصلة...!!
وفي ليلة وضحاها غدت كربلاء معسكراً مترامي الأطراف يموج بالجند... وبدا أن وقوع الحرب أصبح أمراً واقعاً لا محالة...

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة