مهمتان عسيرتان تنتظران عبيدالله بن زياد في الكوفة...!
فأمامه هذا القطاع الكبير من الجماهير الذي يوالي الحسين... فيجب عليه أن يسكته بأي ثمن... أي أن يخمد الثورة في الداخل... حتى يتفرغ لمهمته الثانية في التصدي للهجوم العسكري الذي يقوده الحسين بنفسه...
وبعد اتصالات أجراها ليلاً بأنصار الحزب الأموي... إحتشد هؤلاء صباحاً أمام قصر الإمارة بدعم من قوات الشرطة...
ووقف إبن زياد خلف الجميع يتهدد ويتوعد المعارضة، قائلاً:
- إن سوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي...!
بل أن تهديده طال حتى زبانية السلطة وأزلامها... متوعداً العرفاء.. الذين يمثلون قطاع الجواسيس وعناصر الأمن، بأخذهم بأشد العقوبات...!
- أيما عريف وجد في عرافته أحد لم يرفعه إلينا، صلب على باب داره، وألغيت تلك العرافة من العطاء...!
ومع ارتفاع العصا الغليظة وانبثاث الجواسيس في كل مكان... وجدت الإشاعات مرتعها الخصب وراحت الأراجيف تفعل فعلها المخرب... واهتزت قواعد الثورة... وبدأت تلوح في الأفق بوادر نكسة واضحة...
وأمام هذه التطورات المتسارعة، اضطر مسلم بن عقيل، ممثل الحسين في الكوفة الى تغير مقره العلني من دار المختار بن عبيدة الثقفي الى مقر سري في دار هاني بن عروة...
ولكن هذا المقر الجديد، لم يبق سرياً... إذ استطاع جواسيس ابن زياد - وباستخدام واحد من الأساليب المخابراتية القذرة - الكشف عنه... وهكذا أصبح مسلم وهاني مهددين بالإعتقال...!
تلاحقت الأحداث في الكوفة... فقد اعتقلت السلطة هاني بن عروة، وهو أحد رجال الثورة ومن زعماء مذحج... فتسامعت قبيلته فهاجمت قصر الإمارة، وفرضت عليه الحصار... ورأى ابن زياد الخطر ماثلاً أمامه... فسارع الى اتباع أسلوب المناورة والخديعة... مستعيناً بشخصية شريح القاضي في الإتصال بزعماء مذحج وطمأنتهم بسلامة هاني... بل والقسم لهم انه يتداول مع الوالي أوضاع الكوفة... وانه سيخرج اليهم فور انتهاء محادثاته...!
وعملت أيادي أخرى من وراء الستار... وشيئاً فشيئاً هدأت سورة الغضب في نفوس المحتجين، وتفرقوا بهدوء...
وبلغت هذه الأخبار مسلم متأخرة... فقرر مهاجمة قصر الإمارة فنادى برجاله... وتعالت كلمة السر على ألسن الثوار: (يا منصور أمت)..
وسرعان ما تشكلت قوة ضاربة، راحت تزحف باتجاه القصر...
ابن زياد الذي تنفس الصعداء تواً... فوجئ بهذه القوة الزاحفة... سيما وقد رآها تزيد على قواته بكثير... فتحصن واتباعه بالقصر، بعد أن أغلقت كل منافذه... فيما تولى أنصار الحزب الأموي وجواسيسه خارج القصر مهمة تخذيل جماهير الثورة وتخويفها من جيش شامي في طريقه الى الكوفة..!
كانت الدقائق تمر على جبهة الثورة، فلا تكتفي بتمزيقها وتشتيتها، بل وتستنزف آخر رمق من حياتها...!
وراحت شمس الكوفة تسحب أشعتها الضعيفة جانحة للمغيب وكأنها تأذن بلملمة آخر معاقل الثورة...!
وتحرك مسلم لأداء الصلاة في المسجد فكان معه عشرة رجال فقط... لكنه حينما أتم الصلاة... تلفت خلفه، فلم يجد أحداً...!!
وتاهت خطوات مسلم في أزقة الكوفة باحثة عن مكان آمن يقضي منه ليلته... أربعون ألف رجل بايعوه على الموت... لكنه لم يجد رجلاً واحداً يستضيفه ليلة واحدة..!!
وأخيراً... وبعد تطواف طويل، وجد مسلم من يؤويه... بيد أنه لم يكن رجلاً بل إمرأة... ومن المؤكد أنها لم تكن ممن مد إليه يد المبايعة...!!
كان الرجلان يهرولان، وفي عينيهما نظرةفزع... دون أن يبدو أنهما مطاردان أو هاربان من شيء ما... تعثر أحدهما وهو يراقب اختفاء الشمس خلف الشفق، ثم التفت لصاحبه وقال:
- ألم تقل: أمسينا على مشارف الثعلبية..؟! ...رد رفيقه وهو يشير:
- بلى... لودققت لرأيت...! ...بدت معالم الإرتياح على وجهه وهو ينظر...
ثم قال:
- إن لم يكن قد تنكب الطريق، فسنصادفه حتماً..! ...رد الآخر، كمن يتحدث عن حقيقة غير قابلة للنقاش:
- الحسين لا يتنكب الطريق..! ...توقف الرجل الذي لا زال يجوس الصحراء بعينيه، وقال:
- يخيل لي أني أرى شيئاً... أم تراها أشباحاً ترآت لي؟!...نظر الآخر حيث أشار صاحبه... فصدرت عنه صرخة مكتومة، ثم انطلق يعدو للإمام، وصاحبه في أثره.
توقفت قافلة الحسين عندما بلغها الرجلان... تهامس أصحاب الحسين:
- أتعرفونهما؟! ... رد رجل أسدي:
- أجل... إنهما رجلان صالحان من بني قومنا...
شق الرجلان طريقهما وسط القافلة مهرولين، حتى إذا ما مثلا أمام الحسين، سلما... وَهَما أن يقولا شيئاً، إلا أنهما انفجرا بالبكاء... تساءل الحسين برقة عما دهاهما... فكفك أحدهما دموعه، وقال:
- نعزيك يا بن رسول الله بمقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة...!
طافت بملامح الحسين المشرقة غمامة ألم، وراح يردد:
- إنا لله وإنا إليه راجعون..! ..إنا لله، وإنا إليه راجعون..! ...تقدم الرجل الآخر، وقال برجاء:
- ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك، إلا انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس لك في الكوفة ناصر ولا شيعة..! ...فانتفظ رجال من ذوي الحسين، وقالوا:
- والله! لا نبرح حتى ندرك ثأرنا، أو نذوق ما ذاق مسلم..! ...فنظر اليهم الحسين وقال بمواساة وألم:
- لا خير في العيش بعد هؤلاء...!
لا زالت قافلة الحسين، تغذ السير نحو الكوفة... فيما راحت الأخبار المؤلمة تتوارد عليه... خبر استشهاد رسوله الى مسلم: عبدالله بن يقطر... وخبر انقلاب الأوضاع في الكوفة... وحملات القمع الشديدة التي بدأت تمارسها السلطة الأموية على يد الوالي الجديد عبيدالله بن زياد...
كانت عينا الحسين النافذتان تراقبان القافلة وهي تسير... فيرى أهل بيته وأصحابه المضحين... ويرى المدفوعين بالحماس وكره آل أمية وحسب..! ويرى آخرين ممن حفزتهم المطامع...!
توقف الحسين، فتوقفت القافلة... واشرأبت اليه الأعناق فصدع صوته حامداً الله ومثنياً عليه... ثم راح يتحدث عن التطورات السلبية التي شهدتها الكوفة وخذلانها الثورة... مختتماً كلمته بالقول:
- فمن أحب منكم الإنصراف، فليس عليه منا ذمام..!
تصاعدت الهمهمات والهمسات من هنا وهناك... ثم بدأ الافراد يتفرقون يميناً وشمالاً... وراحت القافلة الكبيرة تصغر وتصغر، حتى عادت الى حجمها الذي خرجت به من المدينة...!
شعر أحد أصحاب الإمام بالألم، فالتفت الى صاحبه وسأل:
- لماذا فعل أبوعبدالله ذلك؟!... فرد الآخر بقلب مطمئن:
- إنما فعله لأنه يعلم أن بعض من التحق بنا كان يظن أن الأمور قد اتسقت لنا...! ...ثم أضاف وهو يحدق الى البعيد:
إننا مقبلون على أمر، لا تثبت له إلّا قلوب إختارت الآخرة على الدنيا..!
عادت القافلة تشق طريقها الى الامام بعزم واصرار واستقامة ...وكأنها قد تخففت من حمل ثقيل كان يعيق حركتها ....!
ومن مقدمتها صدح صوت شجي يحدو :
يا ناقتي لا تذعري من زجري
وامضي بنا قبل طلوع الفجر
بخير فتيان وخير سفر
آل رسول الله أهل الفخر
حتى تحلي بكريم النجر
الماجد الجد الرحيب الصدر
أتى به الله لخير أمر
إبن أمير المؤمنين الطهر
وابن الشفيع من عذاب الحشر
يا مالك النفع معاً والضر
أمدد حسيناً سيدي بالنصر