بعد مبايعة الحشود الغفيرة للحسين على يد ممثله مسلم بن عقيل أخذت الكوفة تغلي بالحماس الجماهيري... واستمر الموقف بالتصاعد ، حتى خشيت السلطة الأموية المحلية التي يمثلها الوالي النعمان بن بشير أن تثب الجماهير عليها في كل لحظة فانسحبت من مواجهتها، لتجنب أي اصطدام.
وأعلن الوالي: إنه لن يقاتل إلا من قاتله، ولا يثب الا على من وثب عليه!
سياسة الوالي المتعقلة لم ترق لأنصار الحزب الأموي... فاحتجوا عليه قائلين:
- إن هذا الذي أنت عليه من رأيك، إنما هو رأي المستضعفين.
ولما رأوا إنه لا يستجيب لهم... جلسوا يتشاورون، لينتهوا الى إعداد تقرير عن الوضع المتفجر في الكوفة وموقف الحكومة المحلية، وإرساله الى دمشق...
ووُضع التقرير بين يدي يزيد بن معاوية ...وها هو يزيد يعيد قراءته للمرة الثالثة، وهو يتميز غضباً:
"أما بعد... فإن مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة، وبايعته الشيعة للحسين بن علي بن أبي طالب... فإن يكن لك في الكوفة حاجة، فابعث إليها رجلاً قوياً، ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعف..!"
طوح يزيد بالتقرير بعيداً، وزعق منادياً على حاجبه بنزق... فدخل الحاجب فزعاً... فباغته قبل أن يفوه بكلام:
- أدع لي سرجوناً! ...تراجع الحاجب وهو يقول:
- الساعة يا سيدي!
نهض يزيد... ثم راح يذرع الغرفة، وعيناه متوقدتان بالغضب... ثم ساق بقدمه التقرير الذي اعترض طريقه...
توالت ثلاث طرقات هادئة على الباب... فقال يزيد دون أن يتوقف:
- أدخل..!
دخل المستشار ملقياً تحية تقطر ملقاً مشفعاً إياها بأميرالمؤمنين!
رد يزيد بهزة من رأسه، ثم أشار الى الورقة الملقاة على الأرض... التقط المستشار الورقة بعجلة، وأخذ يتطلع فيها... فيما خطا يزيد باتجاه كرسيه وجلس...
رفع المستشار رأسه... فأشار إليه يزيد بالجلوس، وهو يقول:
- فماذا ترى يا سرجون؟!
إبتسم المستشار إبتسامة توحي بأن له دالة كبيرة على محدثه، وقال:
- أرأيت معاوية لو نشر لك، أكنت آخذاً برأيه؟! رد يزيد دون تأمل:
- نعم..!
خرج سرجون للحظات، ثم عاد وفي يده كتاب مطوي بعناية، وهو يقول:
- هذا عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة...
هز يزيد رأسه مراراً ، وهو يطالع الكتاب... ثم قال:
- امضه أذن...! ...ثم اكتب اليه ما أقوله لك..!
انتظر يزيد، ريثما أعد صاحبه عدة الكتابة، ثم قال:
- أما بعد... فإنه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل فيها، يجمع الجموع ليشق الطاعة...
رفع سرجون رأسه وقال مقاطعاً:
- الأولى أن نقول: عصا المسلمين... رد يزيد بلا مبالاة:
- أكتب ما شئت..! ....ثم واصل:
- فسر حين تقرأ كتابي هذا، حتى تأتي الكوفة، فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة، حتى تثقفه – أي تلقاه – فتوثقه أو تقتله أو تنفيه)).
- ها هو النهار قد انتصف أو كاد... الا نقيل في هذا الموضع القريب..؟ ...ثم توقف ليتساءل.
- حقا ما اسمه؟! ...أجاب الفرزدق، مستنكراً جهل رفيقة:
- انه الصفاح... وكيف لا تعرفه؟!...رد الرفيق متهرباً من الجواب:
- ما ذاك... اترى سواداً من تلك الناحية؟
ترامت الصحراء الواسعة أمام عينيه، قبل أن يلمح على مدى البصر أشباحاً تتحرك.. فالتفت نحو رفيقه، وقال:
- أظنها قافلة...
ولدى بلوغهما الموضع، ترجل الرفيقان عن دابتيهما.. واستخرجا متاعهما، ثم جلسا يأكلان...
قال الفرزدق وهو يشير الى القافلة التي أصبحت قريبة...
- أحسب أنها تروم مكاناً بعيداً...! ...تساءل الرفيق:
- وكيف عرفت؟ ...أجاب الفرزدق باستنكار:
- ألا ترى أنهم ركبوا الإبل وجنبوا الخيل؟! ...رد الرفيق معترفاً ببلادته:
- أجل... أجل... ولكن لأي شيء تقلدوا السيوف وتنكبوا القسي؟!
وثب الفرزدق عجلاً، وهو يقول:
- أسكت ثكلتك أمك... إنه الحسين (ع)... تقدم الفرزدق نحو القافلة بخطى متسارعة... وألقى التحية على الإمام بأدب جم... ثم تساءل:
- أين تريد جعلت فداك؟...فرد الإمام مرحباً، ثم قال:
- العراق... فكيف تركت الناس؟
فأجاب الفرزدق وفي صوته رنة ألم:
- تركت الناس، قلوبهم معك وسيوفهم عليك..! سكت قليلاً قبل أن يردف.
- الدنيا مطلوبة، وهي في أيدي بني أمية... والأمر الى الله عزوجل والقضاء ينزل من السماء بما شاء..!
رد الإمام موافقاً:
- صدقت..! لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكل يوم ربنا في شأن... إن نزل القضاء بما نحب، فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد من كان الحق نيته والتقوى سريرته...
أثار الحوار بين الحسين والفرزدق تساؤلات لدى أفراد في القافلة... لم يُبدو هذه التساؤلات... إلا أنهم عجزوا عن إخفاء حالة التردد التي إنتابتهم..!
احتشد الناس حول الفارس الملثم، فيما لازال المئات يتراكضون قادمين من مختلف أرجاء الكوفة ليلتحقوا بالحشد الذي راح يكبر ويكبر حول الفارس...
كلمة واحدة كانت تتردد على الأفواه... الحسين... الحسين... وهم يشيرون الى الفارس الذي أحكم لثامه، حتى لم تعد تتبين إلا عيناه...!
بدأ الفارس ومن خلفه مرافقه، يشقان طريقهما بصعوبة الى قصر الإمارة... واكتفى الفارس بهز رأسه كرد على تحيات الجماهير، التي راحت تتعالى:
- عليك السلام يا ابن رسول الله...!
- أهلاً بك يا ابن رسول الله...!
ومن على شرفات القصر العالية ، أطل الوالي النعمان بن بشير ، وعلى وجهه علائم الحيرة والارتباك وقال بتوسل :
- أنشدك الله إلا ما تنحيت...! والله ما أنا بمسلم إليك اماني، وما لي في قتالك من ارب...!
ودنى الفارس من بوابة القصر... وقد قاربت الشمس المغيب... فتقدم مرافقه لأول مرة ليصرخ بالجماهير المحتشدة:
- تأخروا...! هذا الأمير عبيدالله بن زياد...
دخل ابن زياد ومرافقه القصر... وأحكم إغلاق البوابة خلفه:
صدمت الجماهير... وشعرت بانتكاسة نفسية... ثم راحت تتفرق مبتعدة عن القصر، وقد دب في نفوس الكثيرين الرعب...!
مشاهدته عن قرب الحشد الجماهيري الكبير الذي كان يستقبله ظناً منه انه يستقبل الحسين، أصابته بهزة قوية...
فهو يعني مدى تعلق الجماهير بالحسين، وخسارة السلطة لآخر موقع لها بين الناس...! ...وبدلاً من أن يسعى الى فهم اسباب ذلك ... امتلأ غيظاً وحقداً جارفاً، متمنياً أن لو كان قادراً على سحقها جميعاً بضربة واحدة..!
بقي ابن زياد ليلته يقظاً أرقاً، يفكر بوسيلة علها تستطيع وقف هذا الإعصار الذي أوشك أن يقوض ركائز الحكم الأموي...!