البث المباشر

صدى التحدي

الأربعاء 9 أكتوبر 2019 - 11:29 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 59

 

رأى نفسه يطوف على صهوة جواد أدهم... يواكب حشداً من الناس لاعدله... يسوقه الى جهة مجهولة...
مظهره يدعو الى الضحك والعجب معاً...! ...فقد اعتمر تاجاً متناهي الطول... ووضع سيفاً بيمينه، ولجاماً بيساره... وفي قدميه ركاب، وتحته سرج... وكلها مصاغة من الذهب الخالص!
كان يواصل الطَوَفان حول الحشد، يسوقه سوقاً حثيثاً... وويل لمن يخرج من الحشد أو يتوقف عن الهرولة أو يتأوه أو يتأفف...!! فسيهوي رأسه أمامه في أقل من لمحة بصر..!! ...وكلما تعثر الجسد بالرأس متدحرجاً على الأرض... ضحك في نشوة عارمة... والتفت الى الخلف، يحصى الرؤوس التي زرعها كعلامات تثير الرعب على الطريق...!!
ومن بين الجمع العريض ذاك... انطلق – على حين غرة – صوت شديد الوقع، متناهي التحدي يقول:
- ومن هو معاوية، الطليق بن الطليق... لم يكتف بنصب نفسه خليفة لرسول الله (ص)، حتى يريد حمل إبنه الفاسق، شارب الخمر، على رقاب المسلمين..!
زلزله الصوت من الأعماق... أراد أن يصرخ به فلم تسعفه حنجرته...! أن يشهر بوجهه السيف فلم تقو يده! فتخاذل وقد تملكه رعب حقيقي... شاهد الحشد يتوقف فينعطف عليه ثم يضيّق عليه الحصار حتى يطبق عليه بشكل تام... هب من النوم فزعاً... تلفت يمنة ويسرة... حتى إذا عرف أنه في قصره... تحسس لباسه... وراح يلعن نفسه قبل أن ينهض... بسرعة وسخط وتذمر، ...يتوارى... متحاشياً النظر لأحد، أو نظر أحد إليه...؟!
حلم الملك العريض الممتد في الأبناء والأحفاد، لم يراود معاوية بن أبي سفيان في النوم وحسب... بل عاشه طموحاً يسعى بكل إمكانياته وقوته وحيلته أيضاً لتحقيقه، بل لازمه كهم دائم لا يغيب عن نفسه لحظة واحدة...
وتضاعف هم ابن أبي سفيان ذاك، عندما أخبره الأطباء.. أن وضعه الصحي لا يبشر بخير...!
ولكن ماذا يفعل؟! فأمام تحقيق ذلك الطموح عقبات وعقبات... لعل أيسرها تسويق شخصية يزيد الذي يصفه معارضوه بأنه (غلام حدث يشرب الشراب ويلعب بالكلاب).
ثم كيف له أن يبرر تنصله من الصلح الذي وقعه مع الحسن بن علي، والذي ينص على انتقال السلطة بعد وفاة معاوية الى الحسين إذا لم يكن الحسن على قيد الحياة...؟!
وحتى لو لم يكن هناك من صلح أو إتفاق، أكان يسوغ تجاوز شخصية مثل الحسين بن علي وريث بيت الرسالة... ولها كل ذلك الرصيد الشعبي...؟!
هذا فضلاً عن شخصيات أخرى ترى في نفسها الأهلية للترشح لمقام الخلافة...
تأمل قليلاً ثم قال مع نفسه: لابد لي من أن أعمل على كسب سكوت الآخرين أو عدم معارضتهم على الأقل... ثم وبعد لحظة تأمل أخرى شحب وجهه، وتصلبت أطرافه وهو يضيف: ومن لا يريد حقن دمه بالسكوت، فإنني لا أعدم الوسيلة القادرة على إسكاته الى الأبد...!
فوجئت مدينة الرسول (ص) صبيحة أحد الأيام بانتشار عسكري غير معهود... وتساءل الناس متعجبين عن ماهية هذه الظاهرة التي لم يروا لها مثيلاً من قبل...
ولم يطل بقاء النبأ في السر... فقد عرف الجميع أن معاوية قد وصل المدينة، مصطحباً الآلاف من الشاميين، جنود وغير جنود... وانه استدعى الحسين (ع) وعبدالله بن عباس...
أصبح قصر الإمارة محطاً للأنظار... ولو من بعيد...
كان الجنود لا يسمحون لأحد الإقتراب من القصر... فأكتفى الناس بالتطلع من بعيد وكأنهم سيكتشفون ما يدور في داخل القصر عبر هذه النظرة...
طبع معاوية على وجهه إبتسامة ثعلبية وهو يستقبل الرجلين اللذين استدعاهما... حاول التمهيد لما ينوي طرحه بكلمات قبل أن يقول:
- قد كان من أمر يزيد ما سبقتما اليه... وقد علم الله ما أحاول به في أمر الرعية من سد الخلل ولم الصدع بولاية يزيد...
ثم ابتسم إبتسامة صفراء وهو يردف:
- وقد علمتما أن الرسول (ص) قدّم على أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل، من لم يقاربهم...
ثم وزع نظرة على جليسيه، قبل أن يختم كلامه قائلاً:
- مازلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما... فما يقول القائل إلا بفضل قولكما...
استعد ابن عباس للرد... غير أن الحسين (ع) أشار إليه، وقال:
- على رسلك، فأنا المراد، ونصيبي في التهمة أوفر...!
ثم التفت الى معاوية وقال:
- هيهات، هيهات يا معاوية... لقد فضلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت... وجرت حتى جاوزت... ثم تنهد وأضاف:
- فهمت ما ذكرته عن يزيد... تريد أن توهم الناس في يزيد... كأنك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً...!
وتابع يقول بنبرة، هي خليط من التهكم والغضب..
- قد دل يزيد من نفسه، على موقع رأيه... فخذ ليزيد، فيما أخذ به من إستقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي... تجده ناصراً... ودع عنك ما تحاول...! فما أغناك ان تلقى الله بوزر هذا الخلق، بأكثر مما أنت لاقيه..!!
فانتفخت أوداج ابن أبي سفيان ونظر الى ابن عباس، وقال:
- ما هذا يا بن عباس؟!... فرد ابن عباس دون إبطاء:
- لعمر الله، إنها لذرية الرسول، وأحد أصحاب الكساء، ومن البيت المطهر... فالْهُ عما تريد، فإن لك في الناس مقنعاً، حتى يحكم الله بأمره، وهو خير الحاكمين...!
شوهد معاوية بعد أن انفض الإجتماع، محتقن الوجه غضباً... زائغ النظرات... يهذي بكلمات غير مفهومة، وكأنه يجادل شخصاً غير منظور...!
ودعيت شخصيات معارضة أخرى، لإجتماع جديد... افتتحه معاوية بالدعوة الى مبايعة يزيد...
ومافتئت أن تصاعدت همهمات الإحتجاج من بين المجتمعين... وقام أحدهم مخاطباً معاوية:
- إفعل كما فعل أبوبكر، حيث اختار لها رجلاً ليس من أهله...!
تابعه آخر قائلاً:
- أو افعل كما فعل ابن الخطاب، حيث اختار ستة وجعلها فيهم...
فاستشاط معاوية غضباً... وقاطع المتكلم، هادراً:
- لقد كنت أخطب أحياناً، فيقاطعني الرجل منكم، فلا ألومه ولا أعنفه... ثم زمجر، وهو يلوح بيده مهدداً:
- إني ذاهب الى المسجد، لأعلن ما عزمت عليه، فإن قاطعني أحد منكم وعارضني فيما أقول، فسوف يكون السيف أسبق الى عنقه من لفظه الى شفتيه...!!
أُقتيد المعارضون الى المسجد، وأُجلسوا في المقدمة، والى جانب كل واحد منهم رجل مسلح...!
وفيما غص المسجد بأهل الشام، صعد معاوية المنبر، وقال:
- إنني نظرت في أمر المسلمين، فلم أجد لهم من بعدي أصلح من ولدي يزيد... ثم ألقى نظرة شمل بها الحضور، وأضاف:
- لقد عرضت هذا الأمر على الحسين بن علي، وابن عمر، وابن الزبير وابن أبي بكر... على أن لا يقطع دونهم أمراً، ولا يقضي بغير رأيهم حاجة، فوافقوا، وتركوا لي أن أفعل ما أرآه...!
وهكذا مرت البيعة ليزيد، أشبه بمسرحية باردة العرض، خاوية المحتوى...
...وعاد معاوية الى الشام، محبطاً، وقد عرف أن ما قام به، ليس سوى عمل أخرق، لن يجلب الإستقرار لحكم يزيد، ولن يعود على الأمويين بغير المزيد من الكراهية والسخط...!!
كان الليل الأموي يزداد قتامة وعتمة كل يوم.... ومن وراء أستاره الثقيلة... كانت خيوط الفجر القريب، تترآى بوضوح، مبشرة بانبثاق نور ثورة ذي وهج محمدي... ثورة ولود، تتبعها ثورات وثورات...!

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة