جلس ولي العهد منطوياً على نفسه كئيبا، وكأن جبلاً من الهم تدكدك عليه...!
كان يزيد بن معاوية صامتاً، يطيل التفكير... متسمراً في مكانه لا يتحول عنه...
استأذن عليه مهرج البلاط، وعلى يديه قرد قد ألبسه ثوباً فاخراً، وأحاط رقبته بحلة ذهبية نفيسة... وأخرى وضعها على رأسه...!
حاول القرد أن يفلت من يدي حامله باتجاه الأمير، إلا أن المهرج أمسك به، مخاطباً إياه:
- تمهل أبا قيس... تمهل...!
وفي حركة سريعة غاضبة من يده، أشار يزيد له، ليبعد القرد عنه... فخرج المهرج حاملاً القرد، محبطاً... فحتى الشيء الاثير عند الأمير، لم يخرجه من كآبته...!
لوح بيده في إشارة خاصة، لمعاوية وإبنته، الّلذين وقفا خلف الباب يسترقان السمع...!
دفع معاوية الباب ودخل وخلفه ابنته متظاهراً بالتساؤل عن سر انطواء إبنه...!
تحرك الإبن بارتباك دون أن يتكلم... عاد الأب يلح في سؤاله رافعاً صوته... فابتسم يزيد ابتسامة باهتة، وقال:
- لا شيء... لا شيء...!
صرخ الأب قائلاً بلغة آمرة:
- تكلم...! ... اطرق الإبن وقال:
- قد كان الحديث عن جمال أرينب بنت إسحاق... فرغبت إليك في نكاحها... فتركت ذلك، حتى تزوجتْ من عبدالله بن سلام...!
سكن غضب معاوية، وظل يتأمل قليلاً قبل أن يقول:
- أكتم أمرك...!!
ثم راح يجوب الغرفة بخطوات متقاربة وئيدة.... وبعد مضي وقت غير قليل... تراقصت عيناه نشوة... ثم دنى من بنته وقال:
- سيجيئك أبوهريرة وأبو الدرداء، يذكران ابن سلام فقولي: كفؤ كريم.. لكن عنده أرينب بنت اسحاق، وأخاف أن يعرض لي من الغيرة ما يعرض للنساء، فأسخط الله فيه... ولست بفاعلة حتى يفارقها...!
هزت البنت رأسها، إعجاباً بخطة أبيها...
تبادلا إشارة خفية، قبل أن يخرجا معاً...
تسلم والي العراق، عبد الله بن سلام كتاب معاوية... وعندما فضه سر أيما سرور... فمعاوية يستدعيه عاجلاً الى الشام، ويقول:
- إقبل لأمر حضك فيه كامل...!
سارع الى بيته... أطلع زوجته على الخبر... واستودعها بدراً من المال... ثم خرج من بيته، ميمماً وجهه شطر الشام.
هو يعلم أن مكانته كبيرة عند معاوية... ولكن ما هو الشيء الجديد الذي يعده به؟!
أحلام عريضة راودته، وجعلته يحلق على بساط الريح، دون أن يلتفت لطي المسافة الطويلة بيد الكوفة ودمشق... وتمادى في خيالاته، حتى حسب أنه سيجد جميع أبواب البلاط الأموي مشرعة بوجهه... رجال الدولة... الحرس... يقفون على أهبة الإستعداد لإستقباله... بل حتى معاوية نفسه يراوح قدميه تعباً من طول الوقوف، مترقباً مجيئه، لحظة بعد أخرى!!
ودخل قصر الخضراء مزهوا... وتقدم داخل القصر... فلم يجد غير أفراد من الحرس كالحي الوجوه، لم يكلفوا أنفسهم حتى الرد على تحيته...
ودار بعينيه في أروقة القصر، بحثاً عمن يعرفه... ولما التقى الحاجب، صرفه بهدوء الى دار الضيافة، معللاً ذلك بانشغال الخليفة...
دقائق قليلة أمضاها في الدار، ليفاجأ بدخول رجلين عليه...
يا إلهي... أليس هذا هو الصحابي أبا الدرداء؟!... أجل انه بعينه!
أما هذا الآخر، فهو أبوهريرة من غير شك...!
سلم عليه الرجلان بحرارة غير معهودة، وجلسا...
بدأ الشيخان في عجلة من أمرها... أطلق أبوهريرة ضحكة مجاملة ثم سكت... فغمزه صاحبه بعينه، يستحثه على الكلام... فعاد أبوهريرة يضحك، ثم تنحنح وقال:
- لقد كنا عند الخليفة آنفاً... مد أبوالدرداء رقبته وقال مؤيداً:
- أجل... أجل...! ....واصل أبوهريرة، وهو يقترب من ابن سلام:
- ولقد أخبرنا، أنه قد بلغت له بنت يريد تزويجها... وقد ارتضاك لها... وقال لنا: أذكرا له ذلك عني...!
طغت الفرحة على وجه ابن سلام، وقال مع نفسه: وهل من مأثرة أكبر من هذه يكرمه بها معاوية...؟!
استدار نحو الشيخين ليواجههم معاً، وليقول:
- أشيرا عليّ..!
قال أبوهريرة:
- ابعثنا لأبيها خاطبيّن..!
... وخرج الشيخان من عند عبدالله، ليدخلا على معاوية، فقال لهما:
- لقد علمتما رضاي به... فادخلا على البنت واعرفا رأيها...!
- إني لأكره أن أطالب الرجل بمفارقة زوجته..!
أطلق أبوهريرة ضحكة ساخرة وقال:
- ليس عليك من هذا شيء أيها الشيخ..!
كان الشيخان يتحاوران في الطريق، بعد أن إستمعا لإبنه معاوية تقرر عليهما الشرط الذي أملاه عليها أبوها....
وعند باب دار الضيافة، حيث أقام ابن سلام... توقف أبو الدرداء وقال مخاطباً صاحبه:
- إذهب أنت... سأنتظرك هنا...!
نظر اليه أبوهريرة شزراً، وقال:
- أنت وما تريد... ثم تركه ودلف الى الداخل...
لم يُعرف ما دار بين الرجلين... لأنهما كانا يتهامسان... لكن أبوهريرة الذي غضب، ترك التحفظ ليقول بصوت مرتفع:
- إسمع يا بن سلام!... إن ردك هذا سيغضب الخليفة، وان الرجل العاقل لا يشتري غضب الملوك من أجل إمرأة...!
قال أبوهريرة كلمته، وخرج ليترك ابن سلام يتأمل فيها بخوف...!
بدا له أنها تحمل إنذاراً مبطناً بنصيحة شخصية... وهل يجهل هو الاعيب السياسة الاموية، التي خبرها، وكان أميناً على تطبيقها... إذن فقد اصبح الرهان على رأسه...!!
وتصور له موقفه في تلك اللحظة، أشبه بفريسة استدرجها الطعم، لتطبق عليها المصيدة..!!
وبعد لحظات مرت على ابن سلام كالدهور... دخل عليه أحد رجال الحرس الغلاظ، ذوسحنة تنم عن تمرس طويل بالإجرام...
عرف ابن سلام انها الرسالة الأخيرة... فاكتفى بأن عبر بارتباك عن موافقته...!
... قبل أن يركب ناقته وينحدر نحو العراق.
إحتفال كبير تعيشه الكوفة هذه الأيام... مهرجان لكنه غير رسمي عامر بالفرح، يتنقل بين بيوتها...!
الواحد من أبنائها يفتخر على الآخر:
- لقد حل ابن رسول الله في بيتنا أمس... فيهز الآخر الشوق، ويفوه بعتاب:
- ولماذا لم تخبرني قبل هذا؟!... فيرد الأول:
- إن الإمام لا يريد أن يلفت أنظار السلطة الى شيعته...!
الكوفة التي غادرها الإمام الحسين (ع) الى المدينة المنورة شاباً... يعود إليها زائراً، وقد تجاوز سن الكهولة...
...كم عانت الكوفة، من تقتيل وتشريد، وقهر وإذلال وتجويع وترويع، على يد خليفة بني أمية، معاوية بن أبي سفيان... ولذا فهي لا زالت تتطلع الى المخلص... الى المنقذ... ومن غير ابن رسول الله.. ابن علي.. ذلك الذي ساس الناس بالعدل... ووضع الجميع أمام حقوقهم على صعيد سواء..؟!
أجل... من غير الحسين، ينهض لفك أسارها، وإعادة عزها الغابر...؟!
وتحت جنح الظلام، تسلل ابن سلام الى بيته...
وفي اليوم التالي... تهامس الكوفيون:
- أسمعت؟!
- ماذا..؟!
- لقد طلق الوالي زوجته..!
- أرينب بنت إسحاق، تعني؟!
- أجل.. ومن غيرها؟!
- لا أصدق... أرينب مثال الحسن... الغنية...؟!
- قلت لك طلقها... وقد فعل ذلك فور عودته، من استدعائه العاجل الى الشام..
سار الخبر في الكوفة، سريان النار في الهشيم... وتلقاه الناس بالإستغراب بدءا... لكن سياق الحدث، دلّهم على ان لمعاوية يداً فيه...
وتناهى الخبر الى الإمام الحسين (ع) فشعر بالألم، وانتابه الغضب لإستهتار السلطة الأموية الحاكمة بكرامة الأمة وشرفها... وامتهانها لمشاعر الناس وعواطفها...!
وتوهجت عيناه ببريق نافذ وكأنه عزم على أمر ما...!!
--سنعود غداً لإكمال القصة--