هاله ما سمعه وما رآه في السوق... بضاعة قليلة، وأسعار مرتفعة، وحيرة وارتباك لدى الباعة والمتسوقين معاً...!!
بدا هذا الطارئ غريب جداً... فلو أنه حصل بين موسمين، لعده حالة عابرة، ولاستطاع الناس التأقلم معه... ذلك انهم تعودوا الإنحناء للعاصفة... لكن مجيئه في ظروف غير معهودة، رمى الجميع بالخشية من إستمراره...!
كان متعب في طريقه الى بيت سيده... بعد أن قضى بعض الوقت في السوق، وامتلأ رأسه بما يدور هناك... إلا أنه ورغم كل ما سمع... يشعر ببعض الإطمئنان... ذلك أنه عهد مخزن الطعام في بيت سيده، ملآناً... وإن كان يعرف أن إطمئنان الإنسان للقمة عيشه غير كاف لإستشعاره الأمان، في هذا الزمن الرديء...
حديث الناس الذي سمعه – ليس في السوق وحده، وإنما في كل مكان – إن الحكومة في الشام هي التي افتعلت الغلاء...
فالتجار والمسافرون على السواء، ينقلون أن أسعار البضائع في الشام على حالها... لم تتغير...
أجل... تلك هي السياسة الأموية، تجاه مدينة الرسول، منذ واقعة الحرة، قبل أكثر من نصف قرن، وهي تزداد مع توالي الأيام، تنكيلاً وإذلالاً وإمعاناً في الترويع والتجويع...!
إعترض طريقه عابر سبيل، وسأل:
- هل تدلني على بيت الإمام أبي عبدالله جعفر بن محمد؟!
إبتسم معتب وقال:
- تريد بيت سيدي الصادق؟
- أجل... إنه سيدي أيضاً... ومن لا يفتخر بخدمة ابن رسول الله.
معتب الذي تفقد مخزن الطعام، قبل ذهابه الى السوق صباحاً، عاد يتفقده ضحى بعد عودته... وكأنه يريد أن يطمأن الى تقديراته...
فوجئ بصوت الإمام يناديه... استجاب من فوره... وهو يقول:
- أجل يا بن رسول الله... ابتسم له الإمام وقال:
- كم عندنا من الطعام؟.... ارتسمت على ملامح معتب إبتسامة عريضة ...ورد وفي كلامه رنة زهو:
- عندنا ما يكفينا أشهر كثيرة... أجاب الإمام بشكل حاسم:
- أخرجه وبعه...! ....سمع معتب قول الإمام... إلا أنه بقي ذاهلاً وكأنه لم يصدق أذنيه... ثم قال:
- ليس في المدينة طعام...!! .... رد الإمام بكلمة واحدة.. وكأنه اتخذ قراراً لا رجعة فيه:
- بعه...!...
- حمل معتب الطعام الى السوق... ولم يحتج لمزيد وقت للتدليل عليه... فقد تلاقفه الناس في دقائق... وعاد بالمال الى الإمام... وضعه بين يديه، وجلس... وهو يتمنى لو إطلعه الإمام على سبب قراره ذاك... بانت على وجه الإمام علائم الإرتياح... وقال:
- إشتر مع الناس يوماً بيوم... ثم أضاف:
- يا معتب...! إجعل قوت عيالي.... نصفاً شعيراً ونصفاً حنطة...
إختنق معتب بعبرته، وهو يقول:
- أجل يا ابن رسول الله...! ...قال ذلك ثم انسحب بهدوء... وعندما أصبح خارج الغرفة، فاضت عيناه بالدموع... وقال مخاطباً نفسه:
- يا ويلك يا معتب... وكيف فاتك معرفة مرام الإمام... وأنت تعيش في كنفه عمراً... أحس بمن يربت على كتفه... فرفع رأسه ناظراً إليه وقال:
- مالك يا مصادف؟... لقد أفزعتني...! ....أجاب مصادف:
- مالك أنت... لماذا أراك باكياً؟!
قص عليه معتب الحكاية من أولها... فتبسم صاحبه ودنا منه هامساً:
- بعد خروجك الى السوق... أرسل الإمام خلفي وأعطاني ألف دينار وقال:
تجهز حتى تخرج الى مصر!.... رد معتب متعجباً:
- تخرج الى مصر...تفعل ماذا؟! ....تملى مصادف وجه صاحبه قبل أن يجيب:
- للتجارة...
أطلق زفرة قصيرة ثم أضاف:
- ألا ترى يا معتب أن السلطة أخذت تضيّق على الناس سبل أرزاقها... ولقمة عيشها... ثم تغيرت نيرة صوته وهو يضيف:
- لقد أوصاني الإمام أن أخرج مع أول قافلة للتجار...
بعد صمت طويل، فرضه التعب والطريق الطويل الشاق البعيد... ارتفعت أصوات القافلة... وبان الفرح على وجوه رجالها... وتقدم أحدهم براحلته مبتسماً وهو يقول:
- ((أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين)).... إنبرى كبير القافلة يرد عليه:
- ((فإن لم تجدوا فيها أحداً، فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم)).
اختلطت أصوات الآخرين متساءلة... فرفع القائل صوته:
- تلك قافلة خارجة من مصر... فينبغي لنا المكوث هنا... وإرسال أحدنا ليسأل عن حال المتاع الذي معنا... حتى نكون على بصيرة من أمرنا... استحسن أفراد القافلة الفكرة... فترجلوا عن رواحلهم... فيما انطلق أحدهم نحو القافلة الأخرى...
توسط كبير القافلة رفاقه وهو يقول:
- أصغوا إليّ أيها الرجال...! ....التفتوا إليه بأجمعهم...فتنحنح وقال:
- إن مصلحتنا جميعاً تقتضي...إن نتفق على الربح.... ثم نتحالف ونتعاقد إلا ننقص منه شيئاً... فإذا فعلنا ذلك...نفقت بضاعتنا في وقت قصير، وانقلبنا من وقتنا، عائدين الى أهلينا...
قطع عليه معتب حديثه وهو ينظر الى بعيد ويقول:
- أرى صاحبنا قد أقبل مسرعاً... نهض الرجال خفافاً وقد بدت على وجوههم اللهفة لمعرفة الخبر... اقترب الرجل، ثم توقف يلتقط أنفاسه، وهو يقول:
- يقولون ليس بمصر، من متاعنا شيء... طغت الفرحة على رجال القافلة... فيما رفع كبيرها صوته هاتفاً بحماس:
- إسمعوا... الدينار بدينار...! ...وتابع وهو يهز قبضته:
- أجل إياكم أن تنقصوا متاعكم من ربح الدينار ديناراً...!
انطلقت صيحات التأييد... قبل أن تتحرك القافلة من جديد.
عالماً خيالياً جميلاً، اصطنعه لنفسه...
كان رجال القافلة يتحدثون ويضحكون ويضجون... فيما انغلق هو على عالمه الخاص... لم يكن كئيباً... على العكس... كان غارقاً في الفرح... لكنه فرح من النوع الذي لا يريد أن يشاركه فيه أحد...!
مد يده الى جيبيه يتفقد المال الذي حمله... كيس على اليمين... وآخر على الشمال... ألف... والف... ألفان... ضحك مع نفسه... وهو يتخيل البسمة العريضة التي، ستكسو الملامح المشرقة لإبن رسول الله..!
سيضع أحد الكيسين أمامه، وهو يقول:
- هذا رأس المال!... ويضع الآخر ويقول:
- وهذا الربح...!
- يا مصادف!... يا مصادف..!... هتف به صاحبه... فهب وكأنه يستيقظ من نوم عميق... ورد بارتباك...
- أجل... ماذا... خير إن شاء الله...!
- اصح يا صاحبي...! ....لقد بلغنا تخوم مدينة الرسول..!!... ما هي إلا ساعة... قاطعه مصادف، وكأنه لم يغادر عالمه بعد:
- بشرت...! بشرت بكل خير...!
امتلأت نفسه بالغبطة، وهو يجد كل هذا الترحيب من الإمام... أجاب عن أسئلة الإمام المتعددة... عن حاله... طبيعة الرحلة... ناله تعب أم لا... تعامل رجال القافلة معه...
أحس في نفسه، كما لو أن الإمام لا يريد المبادرة الى سؤاله عن مهمته...
فمد يده الى جيبيه ليخرج كيسيّ المال، ويضعهما بين يدي الإمام ويقول:
- جعلت فداك...! هذا رأس المال... وهذا الآخر ربح...
فقال الإمام وفي صوته رنة تعجب:
- إن هذا الربح كثير!!.. وأردف:
- ولكن ما صنعتم في المتاع...؟!
فانطلق مصادف يتحدث بكل ما جرى... وكيف تحالف هو ورفاقه، على أن لاينقصوا متاعهم من ربح الدينار ديناراً...!
إدلتهمت ملامح الإمام وقال بشيء من الغضب:
- سبحان الله...! تحلفون على قوم مسلمين، على أن لا تبيعوهم إلا بربح الدينار ديناراً...!!
شعر مصادف بالخجل والإرتباك معاً... وجف فمه.... فيما مد الإمام يده الى أحد الكيسين، فأخذه وهو يقول:
- هذا رأس مالي، ولا حاجة لنا في هذا الربح...!... ثم نهض وهو يقول:
- يا مصادف..! مجادلة السيوف، أهون من طلب الحلال!!
بعد أن تخلص مصادف من وقع الصدمة... لام نفسه كثيراً... إذ لم يستوعب دروس الإمام وتوصياته المتعددة... وعرف أنه وقع تحت تأثير عقل الجماعة...
أطلق زفرة قصيرة... وقد عزم على مراجعة الإمام لمعرفة مآل الكيس الثاني!؟