البث المباشر

العينان الواهبتان للسكينة

الأربعاء 9 أكتوبر 2019 - 11:02 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 54

 

هذه هي البصرة... حاضرة العراق الثانية بعد الكوفة... يا لها من مدينة كبيرة، جميلة العمران...!
...أتراها كلها على هذه الشاكلة من سعة الدور، وفخامة البناء... أم إنه دخلها من أجمل أحياءها...؟!
لاح له على البعد مبنى حسبه مسجداً... فاستشعر الإرتياح... ذلك أنه لم يبق على الزوال وقت كثير... فالأجدر به أن يأوي الى المسجد، يتقي بظله حر الظهيرة... ويلتمس بعض الراحة... حتى إذا ما حانت الصلاة، صلى، ليتابع بعدها المشوار الأخير من رحلته.
دخل المسجد، وهو يحسبه فارغاً... فلا زال الوقت مبكراً على الصلاة... إلا أنه فوجئ برجل يصلي...
كان رجلاً متوسط العمر، بهي الطلعة... لكن الملابس الخشنة التي تدثر بها، أظهرته وكأنه شيخ أسنّ وبلغ به العمر عتياً...!
بدا له وجود تناقض، أو عدم انسجام بين ظاهر هذه الشخصية التي يحسبها الرائي، ذات خطر وسطوة إجتماعية، وبين واقعها الذي عكس حال الرهبنة والعزلة عن الحياة العامة...
أحس بالإرتياح لهدوء المسجد وجوّه المعتدل... لكن ذهنه بقي مسكوناً بهذا الهاجس...!
لم يطق صبراً... اقترب من أول داخل للمسجد، وسأله:
- من يكون هذا الرجل الذي لبس العباء على هيئة المرتاضين؟!
طفى الإستغراب على وجه الرجل، وسأل:
- أظنك غريباً؟!... ثم ابتسم وقال:
- ومن لا يعرف عاصم ابن زياد الحارثي؟!
أحاط الرجل لفظ "عاصم" بقدر كبير من الإحترام...
فخجل صاحبنا... وانسحب الى ركن من المسجد، ليؤدي صلاته على عجل ويخرج...
لوّحته الشمس طويلا، فلاذ بفناء دار فخمة، هارباً من الحر... وهو لا يملك عينيه من النظر إليها والقول: يا لها من دار واسعة...!
يجب أن يكون صاحبها ثرياً كبيرا...!
أحس بالعطش الشديد... ماذا لو طلب قليلاً من الماء.... لم يضع وقتاً... تقدم نحو باب الدار... طرقه ووقف جانباً مرهفاً السمع... مضى بعض الوقت، قبل أن يطل صبي من فرجة الباب... مد إليه عنقه وسأل:
- لمن هذه الدار يا ابن أخي؟! فرد عليه الصبي برزانة يحسد عليها:
- دار العلاء بن زياد الحارثي... فوجئ الرجل، وقال مع نفسه: أتكون دار الرجل الذي شاهدته في المسجد آنفاً؟.. أجل... ألم يقل... بن زياد الحارثي؟!
ابتسم في وجه الصبي وقال:
- هل لك أن تسقني شربة ماء؟!
ذهب الصبي... ثم عاد دون مكث ليقول:
- إن أبي يدعوك الى أن تقيل عندنا!
شعر الرجل بشيء من الإحراج، غير أنه لم يتردد في الدخول...
قاده الصبي الى غرفة كبيرة، مفروشة بشكل جيد... وفي صدرها طرح فراش، اضطجع عليه رجل، بانت عليه علائم المرض...
رحب به الرجل بصوت ضعيف، قبل أن ينادي على الصبي، قائلاً:
- اسق عمك ماءاً...!
خرج الصبي... لكنه عاد بعد هنيهة لاهثاً وهو يهتف:
- يا أبه.... يا أبه...!! ...رد الرجل كمن فزع:
- ما لك؟!... أجاب الصبي بصوت متقطع:
- يا أبه... إن... أميرالمؤمنين... أميرالمؤمنين... الإمام علي على الباب...! ...هب الرجل فرحاً... وتحامل صاحب البيت على نفسه ليجلس، وقال وقد بانت عليه علائم الإهتمام الشديد:
- ويحك...! دعه يدخل...! طلب صاحب الدار من ضيفه أن يقيمه... فدخل أميرالمؤمنين، وابتسامة مشرقة تتألق على محياه الشريف...
- إنكب صاحب الدار على يده يقبلها، وتبعه الضيف، وهو لا يمتلك نفسه من الفرح...
تساءل أميرالمؤمنين عن حال صاحب الدار وهو يجلس... ودعا له بالشفاء... ثم تشاغل قليلاً بالحديث معه، قبل أن يلتفت يمنة ويسرة، ويقول مخاطباً إياه:
- ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا، وأنت إليها في الآخرة أحوج؟!... ثم تأمل هنيهة وهز رأسه وأضاف:
- إن شئت بلغت بها الآخرة... تقري فيها الضيف، وتصل فيها الرحم... وتطلع منها الحقوق مطالعها...!
العلاء الذي بان عليه الحياء... بدا راغباً بتغيير وجهة الحديث، فقال:
- يا أميرالمؤمنين... أشكو إليك أخي عاصم!... نظر إليه الإمام، ثم تساءل:
- وماله؟!
أجاب العلاء:
- لبس العباء وتخلى عن الدنيا...! ...وشت ملامح الإمام النورانية، غلالة رقيقة من عدم الإرتياح، وقال:
- عليّ به...!
كشف حوار الإمام وصاحب الدار، اللبس الذي وقع فيه... وقال مع نفسه: إذن فالرجل الذي رأيته في المسجد، هو أخ صاحب الدار... العلاء وعاصم... وأردف: يا لها من إخوة على طرفي نقيض؟!!
...دنيا عريضة وترف باذخ في جانب... وحياة زاهدة وكفاف وحرمان في جانب...!!
...وعاد الى نفسه ...فاستغفر الله لا طلاقه هذا الحكم المتسرع، وقال مخاطباً نفسه:
- وكيف عرفت أن الرجل يتقلب في ترف باذخ... وتابع:
- لو كان كما وصفت... لما وجدت قلبه يخفق من أجلك... فمثل اولئك تموت قلوبهم، وتصبح كما الصخرة الصماء، لا تتألم لأنين الجائعين، أو آهات المحرومين...
....ودخل فجأة ذوالعباء... واختطف يد أميرالمؤمنين، وراح يقبلها.... إلا أن الإمام لم يمهله... بل نظر إليه مؤنباً وقال:
- يا عدو نفسه....!... لقد استهام بك الخبيث... أما رحمت أهلك وولدك؟!... وأردف وهو يشيح عنه قليلاً:
- أترى الله أحل لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها؟!... أنت أهون على الله من ذلك...!
كان عاصم يصغي.... ورأسه مطرق... ولما أتم الإمام كلامه، رفع رأسه جزئياً، وهو يقول:
- يا أميرالمؤمنين...! هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك...!!... فرد أميرالمؤمنين:
- ويحك!... إني لست كأنت... إن الله تعالى فرض على أئمة العدل، أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس... كيلا يتبيّغ بالفقير فقره.
إبتسم عاصم بحياء، وقد تندت عيناه بالدموع...!! ...فيما كان العلاء يسعى الى إخفاء علائم الإرتياح التي بانت عليه، وهو يقف لتوديع أميرالمؤمنين، الذي ابتسم للجميع قبل أن يغادر الدار...
الكلمات التي فاه بها علي (ع) آنفاً، أعادت الى ذهنه مشهداً مؤثراً رآه عن قرب في الكوفة... يومها لم يكن قد حضي بمعرفة الإمام، أو حتى رؤيته...
كان يدور في سوق الكرابيس، لإبتياع ثوب لأهله...
وفجأة رآه إمامه ومعه شاب أسود... يا إلهي..! من يكون هذا الرجل؟!... إنه ليبدو إنساناً عجيباً...!
فعيناه اللتان تبعثان بشعاع هادئ يفيض بالرحمة والسلام... هما نفسهما تومضان ببريق من البأس والقوة، تنخلع له القلوب إجلالاً ورهبة...!!
شده الفضول... ما عسى يفعل هذا الرجل العجيب في سوق الكرابيس..؟!
توقف وصاحبه أمام حانوت... إبتاع ثوبين... ودفع قيمتهما للبائع خمسة دراهم... ثم التفت الى رفيقه وقال:
- يا قنبر خذ الذي بثلاثة.... فقال الشاب:
- أنت أولى به يا أميرالمؤمنين.... تصعد المنبر، وتخطب الناس.. فأجابه:
- يا قنبر...! ... أنت شاب ولك شره الشباب... وأنا أستحي أن أتفضل عليك..
إذهله ما سمع... أميرالمؤمنين...!! ....إذن فهو أميرالمؤمنين...!!
إنه لم ير في حياته، بل ولم يسمع أن يقدم سيد مولاه على نفسه في شيء..!!
...فضلاً عن أن يكون ذلك السيد هو الحاكم...!
...وبعد أن عاد إليه انتباهه، كان الرجلان قد غادرا المكان...
فطفقت عيناه اللتان احتبست فيهما الدموع تلاحقانهما، وهو يتمنى لو أتيح له أن يملأهما من التطلع الى تينّيك العينين الفائضتين بالحب والرحمة، المشيعتين في النفس، الأمن والسلام!!

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة