توسطت القافلة الطريق... من الكوفة انطلقت... وغايتها بيت الله الحرام... كل فرد فيها، تحدوه آمال وآمال... يريد أن ينيخ راحلته بجوار البيت... فهو موعود بولادة جديدة... يريد أن ينزع هناك أهابه الدنيوي الثقيل... أن يتخفف عما يشده للأرض... أن يلقي بالأغلال التي تقيد روحه، وتمنعها من الإنطلاق، من التحليق عالياً... يريد أن يزيل هذا العشو، هذا الغشاء البغيض الذي يمنع عينيه من التطلع نحو البعيد... أن يفتح كوة باتجاه العالم العلوي، عالم النور.... الرحمة المطلقة... غاية الرأفة والكرم، و...و... يريد لنفسه أن تغتسل... أن تتطهر وتزكو... ولقلبه أن يكتنز بالحب والرحمة... ولروحه أن تسمو... يريد أن يمد يده باتجاه الفيض الإلهي المتدفق... أن يتعرض لنسيمات العطاء الإلهي... عساه يرتشف شيئاً من برد الكرم الرباني...
وفي فناء البيت الحرام... حيث تتضرع أنفاس رحمة الرب... يطيب شميمه العابق بعبير الجنة... وتحلو المناجات مع الودود... وتتفتح النفس بآمالها وأشواقها على رحاب الرب الكريم... هناك لا ينبغي التردد... ليلقي بكل ما يثقل نفسه... ليقدم على بساط الإعتراف بكل ما ينوء به ضميره... ليفح قلبه على مصراعيه أمام تيار النور... ليدع هذا الفيض الملكوتي... شلال النور المتحدر من الأعالي، يأخذ بمجامع فؤاده فيستيقظ... ويلامس روحه فيصحو... فينضح حباً بالخلق وتواضعاً لهم، ورأفة بالضعفاء ورحمة عليهم...
ومن بعيد، بدت معالم العمران والزراعة... فتصايح رجال القافلة مبتهجين... تلك هي طيبة...!
حطت القافلة رحالها في مدينة الرسول... فقد نال رجالها التعب، ونفدت ميرتهم، ولم يعودوا قادرين على مواصلة الطريق الشاق...
ولم تكن المدينة المنورة محط رحال وحسب... بل هي مهوى الأفئدة لمثوى حبيب رب العالمين... وبضعته الطاهرة...
ومن هذا الذي يأتي حاجاً لبيت الله، ولا يأخذ به الحنين لزيارة رسوله..؟!
تفرق رجال القافلة بعد أن أودعوا دوابهم، واتفقوا على موعد للإنطلاق... فضل بعضهم المبادرة الى ارواء شوقه لتقبيل عتبة النبي الأكرم، واستشمام المحال التي فاحت بأريج أنفاسه...
ورأى البعض الآخر... ان عليه أولاً نزع وعثاء السفر، وإماطة التعب، ليتوجه بمجامع قلبه للقاء الحبيب...
وهكذا أصبح رجال القافلة فريقين... الأول أم المسجد النبوي، والآخر اتجه الى المنازل التي تؤي الزوار...
وبحلول الليل إجتمعا معاً... وراح أفراد كل فريق يتحدث عن مشاهداته لزملائه في الفريق الآخر...
قال أحدهم:
- لقد تعرفت على رجل بادي الصلاح، عليه آثار العبادة والزهد ولقد جالسته ساعة، فوددت أني لم أفارقه... تأمل قليلاً ثم تابع:
- نعم والله... انك لتحس وأنت تقترب منه... إنه لوثيق الصلة بربه...
- ومن هو... ألم تسأله عن إسمه وقومه؟!... رد عليه آخر...
- لا والله... لقد هبته أن أسأله...!...ولكنا تواعدنا على اللقاء ثانية... فلقد طلب إلي أن أعرض عليكم رغبته بالإلتحاق بقافلتنا...
قال أكثر من واحد:
- ولم لا... وتابعهم آخر قائلاً:
- على الرحب والسعة...!
عاد الأول ليوضح:
- لكنه إشترط شرطاً...!
نظر الرجال بعضهم في وجه بعض، مبتسمين، وهتفوا باستغراب:
- شرط...؟!
رد وهو ينظر في وجوههم:
- أجل انه يشترط أن يكون من خدم الرفقة، فيما يحتاجون إليه...
ضحك أحدهم وقال:
- ما أيسره من شرط...!
وأردف ثان:
- إذا كان الأمر هكذا... فانا سنسعد بصحبته ذهاباً وإياباً...
ضحك الجميع... قبل أن يتقدموا لتناول العشاء...
أمضت القافلة أياماً في المدينة المنورة، قبل أن تحزم أمتعتها ثانية، متوجهة الى مكة... ودعت القافلة ديار الحبيب المصطفى (ص) بقلوب والهة...
وعلى الاجل الذي ضربوه له... استقبل رجال القافلة زميلهم الجديد... كان الرجل كما وصفه رفيقهم بادي الصلاح، عليه آثار العبادة، وقوراً مهيباً...
وبدا ومن أول وهلة وفياً للشرط الذي ألزم به نفسه... فكان يسارع لمساعدة الضعيف من رفاق السفر... يخدم الجميع دون توان... يسابق لأي عمل من أجل راحة القافلة... حتى أثار إعجاب رفاقه وعجبهم أيضاً... قال أحدهم:
- انني اعجب لهذا الرجل، إذ لا يكاد يحس بتعب، على كثرة ما يعمل...!.. رد صاحبه الذي تعرف عليه:
- لأنه يستشعر بلذة ما يقوم به...
- وكيف؟... تساءل الآخر متعجباً
- لأنه يعلم أنه يتعامل مع الله...!
- أجل.. تعني حرصه على الحصول على الثواب... قاطعه صاحبه:
- أنا لم أقل الثواب...!
- إذن تعني ماذا؟
- إسمع يا صاحبي... إني لأحسب أن هذا الرجل من أولياء الله الصالحين... ومثل هؤلاء لا يحفزهم الثواب للعمل، ولا يردعهم العقاب عنه... إنما دافعهم للفعل أو الترك هو الحب... الحب لله تعالى... بدا التفكير على الثاني وقال:
- لم أفهم...!
- ألم يصلك ما جاء عن الإمام علي (ع): ((اللهم إني ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، ولكني رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك...))
- أجل والله... لقد سمعتها ولكني لم اسبر غورها...
إرتفع صوت يقول:
- دعونا ننيخ رواحلنا هنا...
كانت القافلة قد اشرفت على أحد المنازل بين المدينة المنورة ومكة المكرمة... حتى إذا ما وصلته، نزل الرجال عن دوابهم، وبدأوا يعدون للإقالة هناك...
- السلام عليكم...
رد أحد رجال القافلة كمن فوجئ:
- وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أباعبدالله، وأهلاً بك... ما الذي جاء بك الى هنا؟
- الذي جاء بك، جاء بي...!
- أما أنا فقد أتيت حاجاً إن شاء الله..!
- رزقك الله حجاً مبروراً...!
- جزاك الله خيراً...! وأنت أين وجهتك؟!
إبتسم وهو يقول:
- أنا على دربك إن شاء...! قطع الرجل كلامه، وراح يحد النظر الى أحد رجال القافلة، ثم سأل:
- من هذا الرجل المهيب ذوالثفنات... الذي يقوم بأعمال القافلة؟!
- هذا رجل صالح، التحق بنا في المدينة، وقد اشترط علينا أن يكون من خدم الرفقة...
- نعم... إنكم لا تعرفونه... ولو عرفتموه... لم تكلوا اليه أعمالكم...
دهش الرجل، وقال:
- وهل تعرفه؟!
- نعم...ومن لا يعرفه... إنه الإمام علي بن الحسين زين العابدين...
اتسعت حدقتا الرجل، وتساءل بلهفة وعجلة:
- أأنت متأكد يا أباعبدالله؟!
- من غير شك...!
انطلق الرجل مهرولا صوب بقية رفاقه، وسرعان ما أقبل رجال القافلة على الإمام، وقد جللهم الحياء.. إنكبوا على يديه يقبلونها... قال أحدهم...
- يا ابن رسول الله... أردت أن تصلينا نار جهنم...؟!
أضاف آخر:
- لكنا قد هلكنا...!!...كان القوم يتحدثون، فيما كان الإمام مطرقاً، وعلى وجهه ابتسامة مصطبغة بالحياء...
ثم رفع رأسه وقال:
- أكره أن آخذ برسول الله صلىاللهعليه وآله ما لا أعطي مثله ..!
أهل البيت... الادلاء الحاملين لمشعل الهدى الإلهي، الذي تسير البشرية في سناه نحو الخلود...!
هم الكواكب المشرقة التي إزدانت بهم الدنيا وتوهجت الحياة... والماء الذي يوقظ نماء الحياة السابتة في التربة اليابسة...
هؤلاء العظماء الذين تتوهج مواقفهم، ومفردات حياتهم نوراً وعلماً وتقوى وفضلاً، عالم رفيع متسام، يتدفق بالرحمة ويموج بالطهر ويترع بالنبل، ويزهو على جنباته المعشوشة الخضراء الأمل...
أوشكت الشمس على الزوال... وبدأت الإستعدادات لإقامة صلاة الظهر... فنهض الإمام، وتبعه بقية أفراد القافلة...