البث المباشر

رياضة النفس

الأربعاء 9 أكتوبر 2019 - 10:43 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 52

 

إنكسرت حدة حرارة الجو... فالشمس قد جنحت للمغيب.. ونسيمات بساتين الكوفة المحملة بالرطوبة، تهب لطيفة طوراً، وحارة خانقة آخر...وهو على ظهر بعيره، يحس بلذع الجوع والعطش ويتصابر... فقد نفد زاده القليل، وشرب آخر جرعة ماء في قربته...
لكن من حسن حظه، انه طوى معظم الطريق... ولم يبق أمامه، سوى شوط قصير... ولعل الحظ يسعده أيضاً برجل كريم يستضيفه الليلة، ليوفر دراهمه لغد، حيث يرتاد السوق ليبتاع لأهله حاجتهم...
ها هي مدينة الكوفة.. عليه أن يخترق سككها المتشبعة، حتى يبلغ مسجدها الكبير... وإن كان ليظن أنه لن يدرك صلاة المغرب...
غابت الشمس... واكتسى الشفق الغربي بحمرة ذهبية، وبدى بعير صاحبنا يتلكأ في حركته، وكأنه مال الى الراحة والإستجمام، مع ميل الطبيعة الى الهدوء والسكون...
لكز الرجل بعيره... وراح يخاطبه، وكأنه يعي كلامه:
- ها قد وصلنا يا رفيقي... لم يبق إلا القليل... طب نفساً... سأقدم لك عشاءك وشيكاً... وسيكون كل شيء على ما يرام...
الظلام الذي أخذ يبسط جناحيه على الارجاء... لم يحجب مسجد الكوفة التليد... والذي بدا أنه يرقد هناك، بسلام وسكينة، منذ دهور خلت..!
بلغ باب المسجد... نزل عن بعيره... عقله... قدم له شيئاً من العلف... حمل معه صرة صغيرة... ثم اعترض صبياً يمر من هناك وسأله:
- يا غلام أين يضع الغريب حاجته في بلدتكم هذه؟... أشار له الصبي دون أن يتكلم... وبعد لحظات كان يدخل المسجد، وعيناه تجوبات باحته العريضة...
كان المسجد خالياً من المصلين، باستثناء عدد من الأشخاص تناثرو هنا وهناك...
لم يضع صاحبنا وقتاً... أدى صلاته على عجل... وراح يلقي نظرة على ما حوله... استلفت نظره رجل وقور بهي الطلعة... ذو نظرات مشعة نافذة... لا يكاد ينقطع عن الصلاة... والقيام والقعود... لكنه جلس أخيراً...
رآه يبسط خوانا ويدعوه لتناول الطعام، ثم يعود لينخرط في الصلاة ثانية...
لبى الدعوة من غير إبطاء، بيدأنه بقي متردداً للحظة، هل عليه أن يشرع بالأكل، أم ينتظر فراغ الرجل من صلاته...
جلس الى المائدة قبل أن تتعلق عيناه بالطعام...
يا إلهي... سويق شعير... في الكوفة عاصمة الخلافة ويأكلون السويق... إن سكان الصحراء لم يعودوا يسيغوا مثل هذا الطعام الجشب...
ألقى نظرة على الرجل الذي بدا مستغرقاً في الصلاة وكأنه يحلق في عالم آخر... لاحظ بساطة لباسه الذي أعمل فيه الراقع يده في أكثر من مكان... بدى له وجود تناقض كبير بين ملامح الرجل المنبئة عن شخصية ذات وزن إجتماعي كبير وبين بساطه مطعمه وملبسه...
لا يستطيع أن يصدق أن هذه الشخصية التي لا يصمد المرء لنظراتها النافذة، مع ما لها من بسطة في الجسم وقوة غير خافية، شخصية إنسان فقير لا يجد إلا سويق الشعير مطعماً..
غاب لحظات يصغي لكلمات الضراعة التي فاه بها الرجل وقد فاضت دموعه بصمت... إنها لتحمل الإنسان الى عوالم شاهقة غير مرئية...
أحس بداخله بالخجل... ما عساه أن يبرر للرجل عدم استجابته لدعوته! عليه إذن أن ينسحب، قبل أن يفرغ الرجل من صلاته..
وعندما بلغ باب المسجد، التفت يلقي نظرة أخيرة إليه فألفاه مشغولاً بالصلاة.
حمداً لك يا رب... لقد كان يبحث عن مأوى يقضي فيه ليلته... أما أن يكون مضيفه إبنيّ رسول الله، فهذا ما لم يكن يحلم به أو يخطر له على بال...
أن مجالسة الحسن والحسين لوحدها تدخل الى النفس إنشراحاً وبهجة لا يوصفان.. فشمائلهما شمائل النبي (ص) ومن أعطافهما يتضوع أريج الرسالة وخلقها السامي...
لكن.. ماله...؟ انه ليجد نفسه متهيباً من مجادثتهما، رغم تواضعهما وقربهما من النفس، لا يدري لماذا؟! يراهما في عزة منيعة صعبة المنال...
وجيء بطعام العشاء... فبسط الخوان وامتدت عليه المائدة وأخذ الثلاثة مجالسهم حولها...
كان صاحبنا قد استبد به الجوع... فنال نصيبه من الطعام الشهي... وأحس بالإمتلاء... فتجشأ حامداً الله... وطافت أمام مخيلته صورة مضيفه الأول وسويق الشعير، فاستشعر إزاءه الرحمة وقال:
- رأيت شيخاً غريباً في المسجد، لا يجد غير هذا السويق، فترحمت عليه... ابتسم كالخجل وهو يضيف:
- أفأحمل من هذا الطعام إليه ليأكله؟
نظر الحسنان أحدهما الى الآخر، وقد طافت غمامة من الأسى على وجهيهما المشرقين...ثم ما فتأ الإثنان إن بكيا...!
ذهل الرجل، وأصابه الإرتباك، إنه لم يقل شيئاً يدعو الى البكاء أو يعد إساءة لأحد... فلماذا يبكيان؟!
أراد أن يعتذر، أن يوضح كلامه... إلا أنه سمعهما يقولان:
- إنه أبونا أميرالمؤمنين علي، يجاهد نفسه بهذه الرياضة...
كان كل همه عندما خرج من بيت الحسنين صباحاً، ان يرى الإمام ثانية...
بادر الى السوق... استوفى شراء حاجياته، ثم عاد الى المسجد.. اتجه الى حيث التقى الإمام بالأمس... فلم يجده...
جال ببصره هنا وهناك، فلم يعثر له على أثر... أراد أن يخرج من المسجد... فوجئ بمن يسأله:
- هل أضعت شيئاً يا أخا العرب؟!... إلتفت الى حيث مصدر الصوت، فصافحت عيناه رجلاً كهلاً متوسط القامة أسمر اللون، قال وقد برحته المفاجأة:
- أضعت رجلاً وليس شيئاً... إبتسم الرجل، وقال:
- ومن هو... أو كيف هو؟
- لم أكن أعرفه... إذ التقيته هنا أمس، لكني عرفته والحمد لله...
حدق فيه الرجل قليلاً، وقال:
- ومن هو؟!
- أميرالمؤمنين...!... اتسعت حدقتا الرجل وقال:
- تبحث عن أميرالمؤمنين...؟ وهل يخفى مكانه... ثم أضاف وهو يشير... تجده هنا يصلي بالناس أو يقضي بينهم... أو هناك في دار الحكومة، لا يمنعك حرس ولا حاجب إذا شئت الدخول عليه...
أعاد صاحبنا على الرجل، لقاءه بالإمام وقضية السويق، وأضاف:
- أردت أن أعرف: لماذا يأخذ الإمام نفسه بهذه الشدة؟
إبتسم الآخر وقال:
- إن كانت هذه بغيتك، فأنا أجيبك... لأنني سمعته يقول:
- هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي الى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز واليمامة، من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع...
توقف الرجل عن الحديث... قبل أن يردف:
- أجل يا صاحبي هذا هو علي أميرالمؤمنين... إنه يقول:
- أأقنع من نفسي بأن يقال هذا أميرالمؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو اكون إسوة لهم في جشوبة العيش؟
كان يستمع لحديث الرجل وهو ذاهل... لم يلتفت لتزايد عدد المصلين، الذين بدأ يغص بهم المسجد... وتنبه للرجل، يقول له:
- سيحضر الإمام عما قليل لأداء صلاة الجمعة:
ومن غير مراسم خاصة... حضر الإمام، ثم صعد المنبر وشرع في خطبة الصلاة...
لاحظ أن الإمام يحرك كم قميصه ذات اليمين وذات الشمال، فتعجب... سمع طفلا يجلس الى جانب أبيه وهو يسأل:
- يا أبة... لماذا يتروح أميرالمؤمنين بكمه، هل يجد الحر؟!... رد عليه أبوه:
- لا يجد حراً ولا برداً، ولكنه غسل قميصه وهو رطب، ولا له غيره فهو يتروح به ليجف.
تمنى لو يستطيع أن يعبر عن مشاعره بحرارة للإمام... لكنه لم يجد الى ذلك سبيلاً... غير أن دموعه التي انسكبت بغزارة على وجهه، كانت تحمل أصدق تعبير عن حبه الذي تنامى بسرعة.

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة