البث المباشر

دموع الرحمة

الأربعاء 9 أكتوبر 2019 - 10:27 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 51

 

كانت تمشي مسرعة متعثرة الخطوات... تتوقف بين حين وآخر لتمسح دموعها المنسكبة بصمت...
كان الجو حاراً شديد الحرارة، والشمس في رابعة النهار... مما دفع الناس الى بيوتهم هروباً من أشعة الشمس اللاهبة، فخلت شوارع الكوفة من المارة، إلا القليل القليل...
توقفت تنتظر مرور عابر سبيل تسأله... إنها تريد أن تشتكي، أن تتظلم... تريد أن تبوح بظلامتها الى إنسان كثيراً ما سمعت بحزمه مع الظالمين ورحمته وشفقته بالمظلومين والضعفاء، وعدله مع الجميع...
إنها لعلى يقين من انها ستهتدي اليه، فليس هو مما يجهله أحد، ولكن طال عليها المشوار واضربها الحر...
رأت على البعد رجلاً مقبلاً... فلاذت بفناء أحد البيوت اتقاءاً للحر، مسحت ما علق بأهداب عينيها من دموع، ووقفت تنتظر...
وعندما اقترب نظرت اليه فهابته... يا إلهي إن عينها لم تقع يوماً على أحد يجلله كل هذا القدر من الهيبة والوقار، ويشع جبينه بكل هذا البهاء والنور... أيكون هو مرادها الذي قصدته؟!
ألقى الرجل التحية، فردت عليه باستحياء... توقف الرجل، وكأنه قد عرف أنه المقصود...
تشجعت المرأة وقالت بانكسار:
- إن زوجي ظلمني وأخافني، وتعدى علي، وحلف ليضربني...!
رد الرجل برفق ورأفة:
- يا أمة الله! إصبري حتى يبرد النهار، ثم أذهب معك إن شاء الله!
قالت المرأة بخوف:
- يشتد غضبه عليّ..!
طأطأ الرجل رأسه ثم رفعه وهو يقول:
- لا والله، أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع...! ثم سأل:
- أين منزلك؟!... فأجابته.... فانطلق يغذ السير، وهي خلفه...
كانت الجاهلية البغيضة تعد المرأة من سقط المتاع... فلا ترعى لها حرمة ولا تعترف لها بحق... لا فرق أن تكون أمّاً أو أختاً أو بنتاً أو زوجة...
فزوجة الأب، يتزوجها الإبن الأكبر دون رغبتها إذا ما مات أبوه! إذ يعتبرها العرف الجاهلي واحدة من مقتنيات الأب التي تعود بالوراثة للأبناء...
والأخت والبنت تذبحان كما تذبح الشاة إذا ما قارفا الخطيئة... وهما قبل ذلك لا رأي لهما في أمر زواجهما، بل وربما زوجتا في إطار صفقة، لتسوية المنازعات العشائرية التي لا تنتهي..!
أما الزوجة، فليس هي غير خادمة مطيعة في البيت وآلة مصممة على الإستجابة في الفراش، وكم مهمل لا يأخذ ولا يعطي، بينهما.
وعندما جاء الإسلام بمنشور كرامة المرأة وحقوقها الإنسانية، آمن به من آمن وكفر به من كفر، وإن قبل الإسلام طقوساً وعبادة، وتلى القرآن للبركة والثواب أو علقه في رقبته حرزاً وتميمة..
ومثل هؤلاء كثير في الماضي، ولا يخلو منهم الحاضر...
وقف الرجل المهيب يمسح العرق عن وجهه، ثم التفت نصف التفاتة نحو المرأة التي توارت خلفه، وسأل:
- أهذا منزلك...؟ ... أجابت بحياء وخوف:
- نعم...
- طرق الرجل الباب،... وبعد هنيهة... خرج شاب... وما أن تطلع إليهما... حتى اصطبغ وجهه بعلائم الغضب... ألقى الرجل التحية وقال:
- يا عبد الله... اتق الله، فأنك قد أخفتها وأخرجتها...!
رد الشاب بصلافة وتحدي:
- وما أنت وذاك؟! ثم أضاف وقد انتفخت أوداجه:
- والله لأحرقنها لكلامك!
إرتفع صوت الرجل وهو يقول:
- آمرك بالمعروف وأنهاك عن المنكر، تستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف.
- السلام عليكم يا أميرالمؤمنين... قطع عليهم أحد المارة الكلام فرد عليه الرجل...
إستيقظت حواس الشاب... أيعني هذا أن الرجل الذي أمامه هو علي ابن أبي طالب... هلك إذن ورب الكعبة... إختطف يد الإمام وراح يقبلها، وهو يقول:
- يا أميرالمؤمنين، أقلني عثرتي..! ...فوالله لأكونن لها أرضاً تطأني..
إلتفت الإمام الى المرأة قائلاً:
- يا أمة الله! أدخلي منزلك ولا تلجئي زوجك الى مثل هذا وشبهه...
- وما تقولون في سودة بنت عمارة؟
تساءل أحد الرجال:
- سودة؟! قال الثاني مستفهماً..
- أجل سودة، وكم في الهمدانيين أمثالها؟... إمرأة عاقلة... شاعرة... جمعت الفصاحة والبيان...
رد ثالث:
- أجل والله، نعم المرأة سودة... ولكن اتجدها ترضى بأن تركب راحلتها وتطوي كل هذه المسافة من البصرة الى الكوفة؟!
عاد الأول يقول:
- وكيف لا... ألا يهمها قومها وما نزل بهم من الجور؟!... ثم حك رأسه وقد بدا كالمتأمل، ثم قال:
- أتركوا أمر إقناعها إليّ...
وهكذا وقع الإختيار على سودة لرفع ظلامة قومها الى عاصمة الخلافة في الكوفة... فليس من المعقول أن يسود نواحي دولة الإسلام العدل ويجار على بني همدان خاصة..!!
ومع حركة ناقتها الوئيدة، كانت سودة تراجع أفكارها...
قال لها رجال من قومها:
- أنت شاعرة... ومن الجدير بك أن تنظمي قصيدة تمتدحين بها الإمام...
وقال لها آخرون:
- ينبغي لك أن تقدمي بين يدي حاجتك، هدية له...
- وضحكت في سرها... إنهم يجهلون علياً...! وهل يغيب عن ذهنها ذلك المشهد الذي تابعته بثوانيه...
كانت تنتظر دورها يوماً لتعرض حاجتها على أميرالمؤمنين... فسبقها رجال راحو يكيلون المديح له... فأغامت معالم وجهه المشرقة، وأطرق وهو يتمتم:
((اللهم إنك أعلم بي من نفسي، وأنا أعلم بنفسي منهم... اللهم اجعلنا خيراً مما يظنون، واغفر لنا ما لا يعلمون)).
أما تلك التي سمعت بها ولم تحضرها... محاولة أحدهم إستمالة الإمام بهدية... فيومها شوهد على أميرالمؤمنين من الغضب، ما لم يشاهد عليه مثله أبداً...!
أمال التعب وتوالي الأفكار برأس سودة، فوضعته على طرف السرج قبل أن يأخذها النوم...!
إنتهت الصلاة في مسجد الكوفة... وتفرق المصلون... ولم يبق حول الإمام الذي كان جالساً إلا أشخاص قلائل... ثم ما فتئ الإمام أن نهض، وانخرط في الصلاة ثانية...
اطلت سودة على باحة المسجد... فرأت الإمام قائماً يصلي، أرادت أن تنتظر، إلا أن التعب الشديد، دعاها لأن تفرغ من مهمتها، حتى تذهب لنيل قسط من الراحة...
تقدمت تنقل خطواتها بحياء وتعب... رآها الإمام فانفتل من صلاته وأقبل عليها برحمة ورفق وتعطف وقال:
- ألك حاجة؟... أطرقت سودة، ثم انطلقت تشكو له ظلم وتعسف والي صدقاته على الاهواز... وما أصابها وقومها من جور على يديه...
وفوجئت سودة بدموع الإمام تنسكب على كريمته... ثم وهو يمد الضراعة الى الله عزوجل قائلاً:
- اللهم أنت الشاهد عليّ وعليهم، وإني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا بترك حقك...!
كفكف الإمام دموعه، ثم أخرج قطعة من الجلد وقلماً وراح يكتب...
وقعت سودة تحت تأثير بكاء الإمام مستشعرة الحرج، وظلت ترقبه بطرف عينها... فرأته يفرغ من كتابه فيناوله إياها مفتوحاً فتسلمته وودعت الإمام وخرجت..
أثار الكتاب المفتوح فضول سودة... وودت لو عرفت ماذا كتب الإمام... وبلغت راحتلتها... فلم تستطع الصبر أكثر... إستخرجت الكتاب وراحت تقرأ، منفرجة الأسارير:
(بسم الله الرحمن الرحيم "قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" (سورةالأعراف۸٥) فإذا قرأت كتابي هذا، فاحتفظ بما في يدك من عملنا، حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام).
ووسط احتفاء قومها بعودتها.. جلست سودة تحدثهم عن رحلتها ونجاح مهمتها، ثم صمتت وقد سبقتها دموعها... قبل أن تتابع: لقد بكى الإمام لما حل بنا... وتبرأ من فاعله...
فشعت عيون الجميع من حولها بالحب الممزوج بالدموع...!

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة