عقدت غرفة عمليات جيش المشركين إجتماعاً لتدارس الموقف...
فها هي تواجه تكتيكاً عسكرياً جديداً لم تألفه من قبل...
كان رجالها لا زالوا يقفون على الخندق، عندما قال أحدهم دون أن يستطع إخفاء إعجابه بالخطة:
- والله إن هذه مكيدة، ما كانت العرب تكيدها...!
أطلق أحدهم ضحكة مفتعلة، مستنكراً حالة الصمت التي أطبقت على المجتمعين، قبل أن يبسط وسطهم قطعة جلد، وعليها بعض الخطوط والرسوم...
تساءل أكثر من واحد:
- ما هذا؟!
أجاب بحركات ماكرة، وشت عن هويته اليهودية.
- إنها يثرب... أجل يثرب!
تطلع إليه الآخرون باستغراب، وقد بدا أنهم لم يفهموا بعد ما يريد...
وضع اليهودي إصبعه على جزء من مخططه، وقال موزعاً نظرة بين الحاضرين...:
- ها هنا ناحية الشمال من يثرب... حيث حفر محمد الخندق.
ثم رفع إصبعه ليضعها على ناحية أخرى، وهو يقول:
- وها هنا في ناحية الشرق وما يقابلها من الغرب أيضاً، إمتدت دور أتباع محمد متلاصقة كأنها السور المنيع... فلا مطمع لنا في النفوذ من هنا.
وأشار الى ناحية أخرى وهو يقول:
أما ها هنا، حيث جنوب المدينة... فهي مساكن إخواننا من بني قريضة... وأردف:
- وهم كما تعلمون، يربطهم عهد بمحمد.
مد زعيم بني فزاره رقبته، وقال:
- يبدو أن لا سبيل أمامنا – على ما تقول – غير بني قريضة...
هم اليهودي أن يتكلم، غير أن أبا سفيان قاطعه بإشارة من يده وهو يقول:
- إسمع يا ابن أخطب..! ألم تأتنا أنت وكنانة بن الربيع، وسلام ابن أبي الحقيق، وغيركم من زعماء اليهود، وقلتم:
(أيدينا مع أيديكم، ونحن معكم، حتى نستأصل محمدا...)
سارع حيي ابن أخطب الى الرد بادي الحرج:
- أجل، ونحن لازلنا على ذلك... ولكن ماذا نفعل لكعب بن أسد... لقد أغلق حصن بني قريضة بوجهي، ومنعني من الدخول، بل رفض حتى الإستماع إليّ.
وبنبرة أقرب للتوسل، واصل ابن أخطب:
- سأقوم من ساعتي لأرى كعباً، ولن أدعه حتى أحمله على ما نريد.
بنو قريضة الذين تظاهروا حتى ذلك الوقت باحترام عهدهم مع رسول الله (ص)، أخذوا على عاتقهم مهمتين خطيرتين:
تجسسية: تسترق أخبار المسلمين، وترصد تحركاتهم، وتستكشف ثغراتهم، وتسلمها أول بأول الى المشركين...
ودعائية: مستهدفة شل عزائم المسلمين وإرهابهم... في إطار حرب نفسية مركزة، يعاونهم فيها المنافقون.
وفيما أخذ المنافقون يرددون مستهزئين:
- محمد يعدنا بقصور كسرى وقيصر، وأحدنا لا يقدر على الغائط...
راحوا ينفخون في أي حادث، وإن كان بسيطاً، ويختلقون معلومات مهولة عن عديد جيش الشرك وعدته...
وتطورت الأحداث سريعاً لغير صالح المسلمين... فقد نجح حيي بن أخطب في مهمته بإقناع بني قريضة في نقض عهدهم مع النبي، ودخول الحرب...
وبلغت الوقاحة بهم حدا، ان اعتدوا على بعض عوائل المسلمين، القريبة من ديارهم وارهبوها... فيما بدأوا يعدون جيشاً لدخول الحرب.
وعلى المستوى الميداني، وبعد أيام اكتفى فيها الطرفان بالترامي بالنبل والحصى، استطاع عمرو بن عبد ود العامري أحد أبطال المشركين من عبور الخندق... فاستبد الرعب بالمسلمين... وزاغت أبصارهم، وبلغت قلوبهم الحناجر، وزلزلوا زلزالاً شديداً...
تواردت هذه الأنباء على النبي (ص)، وهو في المكان الذي جعله كمعسكر في مواجهة الخندق...
فأرسل وفداً لبني قريضة، يذكرهم بالعهد.. كما أمر علي بن أبي طالب ونفراً معه، بإغلاق الثغرة التي عبر منها المشركون.
لم يضع عمرو بن عبد ود وقتاً، بل إنطلق يجول بفرسه، بين الخندق وسوق المدينة، في مسعى استعراضي لإظهار القوة وإخافة المسلمين...
وبعد جولة طالت بعض الشيء، توقف أمام معسكر المسلمين ونادى بأعلى صوته...
- هل من مبارز؟!...
هذه العبارة الوجيزة، كان لها صدى كالزلزال في معسكر المسلمين...إلا أن علي بن أبي طالب (ع) نهض وقال:
- أنا له يا نبي الله...
فأمره النبي (ص) بالجلوس... وراحت عيناه الكريمتان تدور في الوجوه التي كساها الإصفرار، وهو يكرر:
- من له؟ ... فلا يجيبه أحد...
ومضى بعض الوقت، قبل أن يأتي صوت ابن ود ساخراً:
- أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم يدخلها... أفلا تبرزون لي رجلاً...؟
فقام علي وقال:
- أنا له يا رسول الله...
فأشار له النبي بيده أن اجلس ...وعاد (ص) يقول :
- من له ؟ ...فلم يقم احد...
وسمع ابن ود ينشد شعرا ، كاقصى مايكون التحدي :
ولقد بححت من النداء بجمعهم : هل من مبارز
نهض علي(ع) ثالثة ، وقال :
- أنا له يا رسول الله...!
نظر النبي (ص) لعلي باكبار، وقال:
- ادن مني...!
فدنا منه... فنزع النبي عمامته وعممه بها... وتناول سيفه وأعطاه له، وقال:
- إمض لشأنك...! ثم رفع يديه بالدعاء قائلاً:
- اللهم أعنه!
خرج علي لمبارزة عمرو بن عبد ود... فيما التفت النبي (ص) نحو المسلمين، وهو يقول:
- (برز الإيمان كله، الى الكفر كله).
استغرب ابن عبد ود... لم يكن يحسب أن يجرأ أحد على مبارزته... أحس أن كبرياءه قد تصدع... عمرو الذي يعد بألف فارس، يبرز له من هو في عداد أولاده... ترى هل أراد محمد معابثته، عندما أبرز له علياً الشاب؟!
قطع عليه سلسلة أفكاره صوت علي، وهو يقول:
- يا عمرو، إنك كنت في الجاهلية تقول: لا يدعوني أحد الى ثلاث، إلا قبلتها، أو واحدة منها...
قال عمرو بأنفة:
- أجل
قال علي:
- فإني أدعوك الى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن تسلم لرب العالمين.
قال عمرو بتهكم واضح:
- يا ابن أخ اخِّر هذه عني!
رد علي (ع):
- أما أنها خير لك لو أخذتها... ثم قال:
- فها هنا أخرى...
- ما هي؟ رد عمرو بلهجة مختلفة هذه المرة.
قال علي:
- ترجع من حيث جئت...!
امتقع وجه ابن عبد ود، وسحب زمام فرسه بقوة وهو يقول:
- لا يحدث نساء قريش بهذا أبدا.
قال علي:
- فها هنا أخرى...
- ما هي... قال عمرو متحفزاً
أجاب علي:
- تنزل فتقاتلني!
أطلق عمرو ضحكة هستيرية، وقال:
- إن هذه الخصلة، ما كنت أظن أن أحداً من العرب يرومني مثلها... ثم أردف:
- إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك!
فرد علي:
- لكني أحب أن أقتلك، فأنزل إن شئت!
فغضب عمرو، وألقى بنفسه من فرسه، ضارباً وجه الفرس...
واشتبك الرجلان، وثار غبار المعركة، فلم يعد يرى أي منهما... وحبس المسلمون الأنفاس... وتجرأ بعضهم على النظر من بعيد... وتعالى صوت التكبير فجأة، فكبر المسلمون... وطغت الفرحة إذ عرفوا أن علياً قد حسم الجولة.
ومضى وقت غير قليل، قبل أن يأتي علي حاملاً رأس ابن ود... فقام النبي متهلل الوجه، إكراماً له... واستقبله المسلمون مكبرين مهنئين...
.... ولم يبق خفياً سبب إبطائه... فلقد أغضبه المشرك... ولم يرد علي أن يقتله لغضبه... فقام عنه... حتى إذا ما سكن عنه الغضب، عاد إليه.
أجل... لقد وضع رسول الله، ضربة علي الخالصة لله، في ميزان الأعمال، فرجحت على عمل الأمة بكاملها... فليس عجيباً إذا ما وضعت هذه الضربة الحد، ليس لحياة واحد من أقطاب الشرك وحسب، بل للمعركة كلها... فقد أرسل الله تعالى أثرها، ريحاً مدمرة أحاطت بالمشركين، فاقتلعت خيامهم، وكفأت قدورهم، وزلزلت نفوسهم، وجعلتهم يلوذون بالفرار.