ترجل الرجل عن ناقته عجلاً وتلفت يمنة ويسرة قبل أن يتقدم الى أحد الأبواب ويطرقه بشيء من الارتباك!
وبإحتراز شديد أماط اللثام عن وجهه وعاد يطرق الباب من جديد. فتح الباب عن شاب أسمر تتدفق الرجولة والحيوية من ملامحه. رحب بالزائر ثم تراجع موسعاً الطريق أمامه ليدخل. في غرفة متواضعة جلس الرجلان متقابلين، تناول الزائر كوب ماء وراح يرتشف يهدوء فيما إنكب الشاب على مطالعة الرسالة التي حملها اليه صاحبه. اخيراً رفع رأسه وقد شاعت عيناه ببريق خاص، شعر الرجل بشيء من الإرتياح فصاحبه ورغم حداثة سنه مدرك لخطورة المهمة التي سيقوم بتنفيذها ولاشك فهو يعي ثقل الدور الذي سيأخذه على عاتقه ويتصدى هو لاغيره بالنهوض به.
تأمله قليلاً ثم تسائل في نفسه: إنه يبدو رجلاً بحق ولكن أتراه جديراً بتحمل المسؤولية التي أناطها به رسول الله صلى الله عليه وآله؟
توقف قليلاً ثم عاد الى محاورة نفسه: ولكن مهما يكن من أمر ألا ينبغي لرجل مثلي صبر الحياة خبر حلوها ومرها وتقلب بين أفراحها وأتراحها من أن يفيد هذا الشاب بما يعينه على خوض غمار هذه التجربة الصعبة لعلها الأولى في سنيه الغضة.
وحاول جمع أشتات ذهنه المكدود وقال: أرى أن نتسلح بالكتمان!
إبتسم الشاب ابتسامة مهذبة ثم رفع اليه عينان تقولان لاتقلق للأمر فلازال هناك متسع من الوقت وكل شيء موكول الى حينه. ثم دعاه الى إستيفاء قسط من الراحة يعد هذه الرحلة الشاقة بين يثرب ومكة.
ترامت الصحراء على مد البصر قاحلة خاوية وتجانست معالمها حتى لم يعد هناك ما يميز ناحية عن اخرى وغاب عنها أي مظهر للحياة فلاطيف انسان ولاأثر لحيوان او نبات بل ليس هناك ما يحمل على الاعتقاد أن هذه الأرض الميتة المجدبة تنفست الحياة يوماً او دبّ على ظهرها كائن حي.
والى الجنوب صوب مكة المكرمة بدا وأن هنالك قافلة صغيرة تريد المخاطرة بنفسها ودفعها لركوب هذا الطريق المنقطع الموحش. اربع من الابل الشديدة وضعت على ظهورها المحامل ومن وراءها سار ثلاثة رجال، كان الرجل الأكبر سناً يسوق الرواحل ويستحثها على الإسراع وآلاف الأفكار المتباينة والاحتملات المتضاربة تدور في رأسه.
وفجأة سمع صاحبه الشاب يقول له: إرفق بالنسوة يا أيا واقد!
ألقى نظرة فاحصة الى الخلف وأجاب: إني اخاف أن يدركنا الطلب.
إبتسم الشاب وقال: إرب عليك! وتقدم ليحل محله تاركاً الرواحل تسير على مهلها. ثم أنشد:
ليس إلا الله فإرفع ظنك
يكفيك رب الناس ما أهمك!!
أطلق الشاب كلماته تلك بعفوية وصدق وعزم لاحد له وكأنه وهو يترنم بها يصغي الى طيور بيضاء جميلة خافقة بأجنحتها حوله ومشيعة الأمن والسلام والطمأنينة في نفسه. بيد أن ذلك لم يمنع أبا واقد في أن يتسائل في سره: ترى ماذا لو أدركنا القوم؟ ألنا قبل بهم؟ وإستطرد قائلاً: وددت لو أنا خرجنا بهدوء دون أن يثير علي تلك العاصفة. ورغم ذلك فقد أفترت شفتاه عن ابتسامة وهمس: الحمد لله اذ بلغنا هذه المرحلة وتذكر كيف دخل مكة متنكراً قبل يومين ليبلغ أمر الرسول إبن عمه علي بن أبي طالب بحمل عائلته واللحاق به في يثرب. كان الحرص وحده يدفع أبا واقد ليتسائل مع نفسه: هل يكتب لنا النجاح في إنجاز هذه المهمة أم أن هنالك مفاجئة تنتظرنا؟
يا للرجال، يا للرجال!!
بالأمس رقد هذا الفتى على سرير محمد يوهمنا أن محمداً نائماً وهو ينطلق آمناً الى يثرب واليوم يقف على أبواب أنديتنا يهيننا ويتحدانا أنه خارج بعيال محمد!! ههه ياللعار! فتى يتحدى جبروت قريش وكبرياءها!
ماذا تقول يارجل؟ أي فتى تعني؟
ههه كأنك لم تسمع بإبن أبي طالب، عندما وقف هنا ممسكاً بقبضة سيفه وهو يعلن على الملأ ويقول ملأ فيه: لاتقولوا جبن إبن أبي طالب، ها أنا خارج بعيال محمد فمن شاء أن أفري لحمه وأريق دمه فليلحق بي!!
ها أحقاً تقول؟؟
أجل واللات والعزى!
شهدت ذلك بنفسك؟
ما الذي دهاك يارجل؟ اجل وعشرات من رجال قريش!
حسناً ولم تفعلوا شيئاً؟
وماذا ترانا فاعلين؟
تسألني؟ إفعلوا ما بدا لكم!! إفعلوا أي شيء، أي شيء حتى لايقال إنكم جبنتم. حتى لايقال إن فتى لايتجاوز العشرين هزمكم، سحق رجولتكم وكرامتكم!!
أوشكت أن أقول بمقولتك هذه ولكن أيجدر بي أن أتفوه بشيء وسادة قريش وكبراءها يشهدون.
مامنع كبراءها أن يفعلوا شيئاً؟ هل كان الأمر بحاجة الى إعداد جيش أم عوزتهم مساعدة احلافهم؟
دعك من ملامتي وقم بنا إن كنت حازم الرأي نسير الى القوم نحرضهم ونحفزهم قبل أن يفوتنا الرجل.
توقف هذا الحوار الصاخب في أحد أندية قريش قبل أن يشاهد رجلان وهما ينطلقان منه لايلويان على شيء كأنهما عاصفة هادرة.
بدا التعب والإرهاق واضحاً على وجوه الرجال الثلاثة وإنقطع الحديث بينهم او كاد وأخذت الرواحل تجرجر قوائمها بتثاقل وإعياء، رفع أبو واقد يداه بإزاء عينيه متقياً أشعة الشمس وهو يلقي ببصره صوب الشمال وقال: آه تلك هي ضجنان!
وأردف: لم يبق شيء كثير. ثم تلفت الى الجنوب وسرعان ما شحبت سحنته وهتف بنبرة لاتخلو من إرتباك: اذا لم يخن بصري أرى عدة فرسان في إثرنا!!
نظر علي حيث أشار صاحبه ثم هتف: يا أبا واقد وأنت يا أيمن أنيخا الإبل وإعقلاها!!
ثم تقدم وأنزل النسوة!!
وعندما فرغ من ذلك إنتظى سيفه وإستقبل المغيرين!
إقتربت الجياد تشتد بأصحابها ثم توقفت، ثمانية من الفرسان الشداد كستهم غبرة الطريق ورغبة الانتقام سحنة غريبة. ولاح من بينهم فارس أسود فارع الطول عريض المنكبين. نادى احدهم بغرور: ظننت أنك ياغدار ناج بالنسوة؟ إرجع لاأبا لك!!
ردّ علي ببرود وسخرية: فأن لم أفعل؟
هتف رجل ثان: لترجعن راغباً او لنرجعن بأكثرك شعرة وأهون بك من هالك!
ثم تقدموا بإتجاه النساء إلا أن علياً إعترضه.
كان الفارس الأسود يترصد علياً وظن أنه وجد فرصة مناسبة فسرعان ما إنقض عليه وكانت مفاجئة مذهلة بل معجرة لاتصدق!!
فقد أهوى الفارس بسيفه على رأس علي بضربة أودعها قوته غير أن هذا الشاب راغ كلمح البصر متفادياً الضربة ومسدداً في الوقت نفسه ضربة قاتلة لغريمه!!
ضربة واحدة إلا أنها كانت حاسمة فقد رسمت مشهداً مروعاً كادت قلوب القوم تثب فزعاً منه. أجل فقد توزع هذا البائس الى شطرين تساقطا من على ظهر الجواد وكأنهما كومة حطام. ولم يترك علي فرصة لأعداءه يلتقطون فيها بعض الأنفاس فقد شدّ عليهم وهو يطلق صيحات بثت الرعب فيهم فتراخت مفاصلهم وإصطكت أرجلهم وراح يواصل مطاردتهم وهو يرتجز:
خلو سبيل الجاهد المجاهد
آليت أن لاأعبد غير الواحد
فتفرقوا بين يديه وتنادوا: أحبس نفسك عنا يا إبن أبي طالب!!
وقف علي شاهراً سيفه ملقياً عليهم نظرة إحتقار وإستخفاف ونادى بأعلى صوته: إني منطلق الى أخي وإبن عمي رسول الله فمن سره أن أفري لحمه وأريق دمه فليدنو مني!
تراجع القوم غير مصدقين أنهم ناجون من الموت فيما إلتفت علي الى صاحبيه وقال: إطلقا مطاياكما!!
تحركت الدماء في وجوه أفراد القافلة ووثب أبو واقد وأيمن وهما يعبران عن فرحتهما الغامرة وراحا يعدان العدة لمواصلة السير. وسرت بين النسوة كلمات هامسة داعية الله بحفظ علي وتوجهن لإحدى رفيقاتهن يباركنها: بوركت يا أم طالب، يا ام علي، أسعدك الله بهذا الإبن الشجاع.
كان الجميع فرحاً يعبر عن فرحته بنحو او آخر غير البطل فقد كان مطرقاً كأنه يتأمل شيئاً ما، وجهه ينم عن شيء، عن معنى واحد، لكنه معنى مستغلق، معنى عميق، سر روحي بعيد الغور!!
وتتابع القافلة سيرها وتصل بعد طول عناء ليهز وصولها المدينة المنورة وتسري اخبار المواجهة البطولية، المنازلة الأولى بين المسلمين والمشركين فتخفق القلوب لهذه البشارة وتلهج الألسن بشكر الله ويملأ الجميع إعتزاز كبير بدينهم.