البث المباشر

مرفأ الأمل ۳

الثلاثاء 8 أكتوبر 2019 - 10:17 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 36

 

خلاصة القسم الأول والثاني
كثيرة هي التحديات التي واجهها القادة الإلهيون، أمناء الرسالات الإلهية على الأرض ومتنوعة ومختلفة ايضاً كماً وكيفاً ضيقاً وإتساعاً مداً وجزراً. وأياً كان لون تلك التحديات والمصاعب او حجمها فقد بقي عاجزة عن أن تفل في ارادة وعزم وصبر تلك القيادات الإلهية. حتى اذا ما وقف يعقوب عليه السلام ورأى دفة القيادة الزعامة لم تسالمه الظروف بطبيعة الحال بل واجهته بنوع آخر من الصعوبات والمشاكل. فيوسف الذي رشحته السماء من بين أبناءه الأحد عشر لفيادة الركب نحو الأهداف الإلهية الكبيرة أصبح مثاراً لمشاعر إخوته الضيقة الحاسدة ومداراً لدوائر كيدهم وتآمرهم، وتتفق كلمة الأخوة عدا واحد على التخلص من يوسف بأي سبيل. وكانت يد التدبير الإلهي وراء الصيحة التي ارتفعت بينهم للتوقف عند إلقاء يوسف في البئر دون قتله، وتمتد أي احدى القوافل العابرة الى قاع البئر تنتشله ومن ثم تحمله الى مصر لتبيعه بدراهم معدودة "وقال الذي اشتراه من مصر لأمرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا او نتخذه ولداً".
وعملت المرأة بوصية زوجها وبالغت في إكرام يوسف الى الدرجة التي ضايقته وأثارت في نفسه التساؤلات!!
ترى لماذا تنفق هذه المرأة جل وقتها للعناية به؟
أليس في هذا القصر الكبير من الخدم ما يكفي للقيام بهذه المهمة اليسيرة؟
غير أن يوسف عليه السلام لايلقي بالاً لهذا الأمر، إنه في شغل عنه بل وعن كل مايدور في القصر ويلهج به من وقوع مؤامرة على حياة الملك وإعتقال اثنين من رجاله إثر ذلك. فلدى يوسف من همومه الرسالية وأحزانه الشخصية ما يكفيه. ولكن كيف سينتهز أويقات يختلي بها الى نفسه اذا كانت هذه المرأة تلاحقه وتقطع عليه تأملاته بضحكاتها العابثة؟
لايدري لماذا تصر هذه المرأة على إقتفاء أثره؟
لماذا تسعى الى إقحام نفسها في حياته وعالمه الخاص؟
وتبقى سيدة القصر تتودد وتتبدل لكن يوسف يصدها، يذودها عن اجواء حياته. إنه لون من النزال المقدس بين العقل والارادة والملكات النفسية السامية الرفيعة وبين الغريزة والشهوة الرخيصة الهابطة المبتذلة.
ويتحرك يوسف الصديق مبتعداً عن هذه البؤرة التي شم فيها رائحة الأثم إلا أنه سمع الخطوات تندفع خلفه فأسرع يوسع خطوه نحو الباب لكن يداً من وراءه تشبثت بقميصه ومزقته، وكانت المفاجئة ماثلة أمامهما فقد ألفيا رب البيت يقف عند الباب!!
القسم الثالث
في عرف الطواغيت وحكام الجور أن كل شيء فداء لوجودهم المقدس، حياة الآخرين وكراماتهم ومايملكون، البلاد وإستقلالها وثرواتها، حقائق الكون وقيم الخير، فضائل الأخلاق كلها وكلها لاتعدو في ذلك القاموس الظالم أن تكون وفي أي لحظة كبش فداء!
الفرصة الضئيلة لها بالحياة ورؤية النور اذا كانت خرساء لاتقوى على الاعتراض والاحتجاج أي أن وجودها وعدمه متساويان وفق أي معيار او معادلة رياضية ومن أي درجة كانت. وكثيراً مايكون إمتلاك فضيلة البكم وحدها سبباً غير كاف يتعلق به للنجاة. ومالم ينسلخ الانسان عن ارادته ويندك في الارادة الطاغوتية فإن اسمه يوضع أبداً على قائمة المرشحين للاعدام ويبقى ساهراً يرقب مصيره المحتوم. واذا كان هؤلاء الذين يجعلون من انفسهم آلهة صغار يسوسون رعاياهم بنظام إحصاء الأنفاس فإنهم مع ذواتهم وذويهم وأتباعهم وأفراد جوقاتهم منفتحون وأريحيون ومتحررون وديمقراطيون ايضاً. ولاينبغي للمواطنين العاديين أن يشتبهوا ويخلطوا هذا بذاك فيما لو دفعت الصدفة او غيرها أن يلتقي هذان الخطان او أن يتماسا. يجب لهم أن يعرفوا وأن يراعوا دوماً الحدود الفاصلة والشاخصة بين الأمير والمأمور، وفي حالة من هذا القبيل وجد يوسف الصديق نفسه فلم يكن في عينيه الغاضبتين ولافي ملامح وجهه المتوترة الثائرة ولافي قميصه المقدود من دبر ولا حتى في الكلمات القوية البريئة الصادقة مايشفع له عند جلالة الملك ويثبت برائته. أما سيدة القصر فيكفي أن تدفن وجهها بشيء من طلاء العفة المصطنعة ثم تسدل عليه غلالة صفيقة من الرياء ثم تقول "ماجزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن او عذاب أليم" يكفي ذلك تماماً بأن يزور الملك الحقيقة ويوجه ركلة اخرى لرمس ضميره الذي دفنه منذ اعوام طويلة خلال المراسم الاحتفالية بتتويج جلالته.
ويعقد الملك جلسة للتشاور مع مقربيه بشأن يوسف وبعد حديث طال أم قصر بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات "ليسجننه حتى حين"!!
"إني تركت ملة قوم لايؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون وإتبعت ملة آبائي ابراهيم واسحق ويعقوب ماكان لنا أن نشرك بالله من شيء ياصحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ماتعبدون من دونه إلا أسماءاً سميتموها انتم وآبائكم ما انزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر أن لاتعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون"
هكذا بدأ يوسف عليه السلام بتعريف نفسه لنزلاء السجن بل لنزيلي السجن اللذين لم يكونا غير ذينيك المتهمين في التآمر على حياة الملك. اجل في السجن في ذلك العالم الغريب والمعقد بدأ يوسف مهمته الرسالية، في قلب المحنة والاختبار الصعب وفي لحظة الأسر والوقوف في قبضة العدو يتحدى العدو ويسعى لأن يفل قواه ويضعضع من غطرسته وإرهابه ويهون من أدواته التي يستخدمها للقمع والارهاب او للتعمية والتضليل. "إن الحكم إلا لله" ماهذه الأرباب المزيفة التي تنقادون لها وتخنعون امام طغيانها وتجبرها "ذلك الدين القيم" عبادة الواحد القهار لكل الطواغيت والجبابرة حتى يردهم عباداً. لافرق بينهم، لايعلو بعضهم على بعض، متساوين كأسنان المشط.
وهكذا واصل يوسف عليه السلام الدعوة الى الحق وكان له من شخصيته القوية الجذابة وكلماته الصادقة المعبرة ماجعله يمسك بمفاتيح القلوب وخرائط النفوذ الى الذهان والعقول.
الوحدة عندما تكون مطلباً نفسياً يختلي فيها الانسان مع نفسه في رحلة قصيرة يستريح فيها ويراجع وإياها في عزلة بعض الحسابات الخاصة التي لايود لأحد غيره أن يتنصت اليها او يسترق السمع فهي بهذه الحدود او بهذا اللون مقبولة بل ومطلوبة أما عندما تفرض بالقوة او نتيجة ظروف معينة وبشكل دائم ومستمر عند ذاك تصبح لوناً من ألوان الحرب النفسية وصبغة ممقوتة ومنفرة. وشدما تكون هذه الحالة مؤلمة في السجن في عالم الظلام والأقبية السوداء، هناك تتضاعف الحاجة الى الأنيس وتعنف حيث تخيم الوحشة بكوابيسها الثقيلة على القلوب فتغلق نوافذ الهواء النور.
على إمتداد الممر الطويل ظل حارس السجن يسير ذهاباً وإياباً وقد بدت عليه علائم التفكير والقلق، كان لايفتأ كلما بلغ نهاية الممر ذاك أن يهم بالنظر الى داخل الغرفة المحشورة في الزاوية لأنه سرعان مايعدل كمن أخذته الرهبة ويواصل تطوافه الذي لاينتهي. وتباطئت خطواته وهو يهمس مع نفسه: لقد غادره رفيقاه!
أجل لقد رأيتهما بنفسي، لاشك أنه يقبع وحيداً هناك في أعماق الظلام! وأردف بصوت شبه مسموع: ياإلهي لكم أحبه!!
فاه حارس السجن بهذه العبارة القصيرة ثم واصل تطوافه حتى اذا ما حاذى الغرفة المحشورة في الزاوية توقف من جديد ثم مدّ رأسه من هوتها وقال دون مقدمات: إنني لأحبك!!
فوجئ يوسف عليه السلام بهذا الكلام إلا أنه إبتسم وقال: ما أصابني إلا من الحب!
كان أبي أحبني، حسدوني إخوتي. وإن كانت امرأة العزيز أحبتني حبستني! ثم إتسعت إبتسامته يريد القول: وها انت أحد المحبين تغلق عليّ الباب!!
ليست هي ثورة تلك التي نقلت يوسف فجأة من ظلام الزنزانة لتضعه تحت انوار المصابيح الكبيرة في القصر الملكي. أجل ليست هي ثورة على غرار مايحصل في العالم من ثورات بل إنها إعلان عن نهاية مرحلة وشوط من البرنامج الذي أعده الباري عزوجل لصقل شخصية يوسف القائد الإلهي. المشيئة الإلهية التي عبرت بيوسف ظلمتي الجب والسجن لايعجزها أن تفتح عليه الأنوار وتضعه في مركز دائرة الضوء، وهكذا كان. فالملك نفسه الذي ألقى بيوسف عليه السلام في السجن يعود ليخاطبه: "إنك اليوم لدينا مكين امين" ثم يفسح له مكاناً الى جنبه ليحتل أخطر موقع حكومي بعد الملك وليشرع في معالجة الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم آنذاك. وتتقدم سيدة القصر معترفة بجرمها ومقرة على نفسها بالذنب.
"وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون" أجل جاءه الذي كاده بالأمس بعد أن لوت عنقه ارادة السماء وسلمت مفاتيح رزقه بيد يوسف الصديق. وقف إخوة يوسف بين يديه متصاغرين ومدوا أيديهم بذلة "ياأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجز المتصدقين".
ثم يحملوا أباهم من الشام الى مصر بعد أن يعرفوا الحقيقة، ويكحل يعقوب عينيه لرؤية يوسف من جديد ثم يخروا ومعه بنيه سجداً لله ليلتفت يوسف الى أبيه قائلاً: "يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً".

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة