البث المباشر

مرفأ الأمل ۲

الثلاثاء 8 أكتوبر 2019 - 10:04 بتوقيت طهران

اذاعة طهران – قصص الصالحين : الحلقة : 35

 

خلاصة القسم الأول
كل ولادة جديدة تبقى يسيرة اذا ما قيست الى ولادة المجتمع فعملية ولادة او بناء من هذا النوع تبقى عسيرة وشديدة الصعوبة اذا لم يكن نصيبها الإجهاض في وسط الطريق ولاينتظر بعد ذلك أن نرقب عملية المخاض الصعبة تلك لنشهد تحولاتها في عام او اعوام او حتى عشراتها. فها هو المجتمع الذي جاهد ايراهيم خليل الرحمن من اجل وضعه على منهج التوحيد وهدى الحق والعدل لايزال بناءاً لايرتفع على أساسه إلا بمقدار يسير. وعندما يتحمل يعقوب عليه السلام أعباء عملية البناء تلك يسعى لأن يضع لبنات جديدة على طريق تشييد الصرح التوحيدي الشامخ. غير أن التحديات والصعوبات تبدأ عملها من الداخل قبل أن تلج عليه من الخارج، من أسرته نفسها. وشعر عليه السلام بإهتزاز الأرضية التي يقف عليها.
يفتح فتى يافع كأنه شعلة تتوهج إشراقاً وتتوقد ذكاءاً، يفتح باب دار يعقوب صباحاً ليخرج كوكبة من الشباب وهم يحملون المعاول والفؤوس وقبل أن يودع آخر شاب الدار يلتفت الى أخيه الفتى الذي أخذ يراوح في مكانه كأنه يستعجل إغلاق الباب والعودة الى داخل الدار يلتفت اليه قائلاً بلهجة متحاملة متهكمة: هههه وأنت يايوسف ألم تكبر بعد لتخرج معنا الى العمل؟
ويشايعه بالقول أخ آخر وهو يشير من طرف خفي الى أبيه: دع الصبي فهو لايزال بحاجة الى الحنان!!
وعندما عاد الفتى يوسف عاجلاً الى أبيه قرأ على جبينه سطور الألم. وتردد أينبغي له إلتزام الصمت احتراماً لمشاعر أبيه أم يتحدث؟ إنه يريد أن يتحدث، يريد أن يخبر أبيه عن هذا الشيء العجيب المحير الذي رآه في عالم النوم.
وهمس! ياأبه
رفع الشيخ رأسه ولما رأي التردد في عيني فتاه إبتسم مشجعاً فإنطلق يوسف يقول: "ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين".
تمازجت الفرحة والرهبة في نبرات الشيخ وهو يجيب: "يابني لاتقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدو مبين"
ولكن القصة تبلغ مسامع الأخوة فتضطرم نيران الحسد في قلوبهم وتزيد لظى وإستعارة وتتطاير شراراتها لتصيب ليس يوسف وحسب وإنما اخ صغير له ايضاً. وتبدأ دوائر الكيد بالعمل.
"أيوسف وأخوه أحب الى أبينا منا"
"ونحن عصبة"
"إن أبانا لفي ضلال مبين"
"أقتلوا يوسف او أطرحوه أرضا يخلو لكم وجه أبيكم"
"وتكونوا من بعده قوماً صالحين"
ويطرح أحدهم حلاً وسطاً "لاتقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين"
وهكذا تمتد الأيدي بغلظة الى يوسف لتدلي به في البئر بعد أن تنزع قميصه. ولماذا سلبوه قميصه؟ أكانوا بحاجة اليه؟ كلا إنها عادة الجريمة، إرتداء القمصان فمكرها يمنعها أن يراها الناس عارية وهي على ماهي عليه من بشاعة ودمامة!!
ولايملك الشيخ بعد أن يبلغه الخبر إلا أن يردد "فصبر جميل والله المستعان على ماتصفون" وتفيض عيناه بالدموع.
لكن فتانا يوسف ورغم حداثة سنه فإنه لم يرهب ذلك القبر المظلم الموحش بل كان ايمانه الكبير يسرج له ما شاء من قناديل.
ومن بعيد تتناهى الى سمعه أصوات خاصة.
ماهذا؟ ياإلهي إنها قافلة عابرة من غير شك!! ولكن أتراها سترد الماء؟
القسم الثاني
الصدق والمشاعر النبيلة توأمان او كيانان ولدا من رحم واحد فحيثما يكون الأخ يكون أخوه فلا الصدق يكلل حياة الانسان وشخصيته اذا إنجمدت فيه المشاعر وإنحسرت ولامشاعر نبيلة تفوح من نفس الكاذب الخربة. أجل فهذه النبتة المباركة لاتنمو إلا في الرياض ولاتتنسم هواءاً مالم يعطره شذى الصدق ويضوع منه أريج النبل والحب أسمى تلك المشاعر وأرقاها، ليس الحب بالمعنى الذي يدعيه شعراء الأغاني الرخيصة والمتسكعون في الشوارع المأخوذون بالبريق والطلاء إنما الحب ذلك المعنى المطلق، الينبوع الثر الذي يتحدر من الأعالي، من مصدر الخير والعطاء الأزلي، من الخالق الرحيم الودود. ذلك حب لايعرف الأنانية بل يبسط بخيمته الواسعة على الجميع. ولعل من قدر الحب أنه كثيراً ما يحفه الحزن ويواكبه البكاء ويغتسل في اليوم مرات ومرات بالدموع. وهل هناك أحق بالرثاء من المآقي عندما تفيض بالحزن والدموع؟ وكم هو مؤلم اذن منظر الشيخوخة عندما تأكلها الأحزان ويقتات على صبابة عيونها البكاء. وهل بعد في المثال أصدق للحزن من حزن يعقوب، يعقوب الصادق الوفي البار، يعقوب الوالد الذي غيبوا عنه ولده الحبيب البار "فإبيضت عيناه من الحزن فهو كظيم".
لم يطق الجلوس أكثر فنهض واقفاً ثم راح يذرع القاعة الفسيحة جيئة وذهاباً. نظراته الساحرة يلونها معنى عميق فيفضي عليها مزيجاً عجيباً من الجمال والجلال، الجمال الآسر الأخاذ والجلال القدسي المحاط بالأسرار. وإنتقل الى قاعة اخرى وأخذ يدور ويدور غير أنه كان يدور بشطر منه وحسب، كان يدور ببدنه أما روحه، شطره الآخر فقد كان يدور في ميدان بعيد وقصي في البعد. ولما جال مختلف ردهات القصر الكبير ذاك عاد الى مكانه الأول ليبدأ رحلة جديدة مع عالم التأملات العريض. رحلة عجيبة تلك التي حملته من الشام الى مصر، من ظلمة ذلك البئر العميق الى انوار هذا القصر الواسع. كم مضت عليه صعبة تلك الأيام التي إسترقه فيها رجال القافلة؟ ولكم تمنى لو بقي في البئر لكان خيراً له من هذا الشعور المقيت، شعور الذل والهوان!! لكن الله تعالى أنقذه من براثن الإسترقاق. وقفزت الى ذهنه فجأة تلك الضحكة الغريبة التي أطلقتها زوجة العزيز وهي تستمع الى وصية زوجها به، كلما قاله الرجل "أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا او نتخذه ولداً". فأين الضحك من هذا؟ وماذا له أن الغموض يغلف موقف تلك المرأة بشكل كامل؟ لكنه لاينكر منها شيئاً، إنها تحيطه بالحب والرعاية الكبيرين!! ويعجب أنها تنفق جلّ وقتها للعناية به وخدمته. أليس في هذا القصر الكبير من الخدم ما يكفي للقيام بتلك المهمة اليسيرة؟
إن شدة الحبل تلك نفسها تضايقه أيما مضايقة!!
تحدث القصر الملكي في أحد الأيام عن إكتشاف مؤامرة تستهدف رأس العزيز وإرتفعت أصابع الإتهام مشيرة الى اثنين من الرجال العاملين في خدمته، وسيق الرجلان دون إمهال الى السجن. وجرى كل ذلك حوله بيد أنه لم يعره أي إلتفات، كان له من همومه الرسالية وأحزانه الخاصة مايصرفه بها عن هذا العالم المحيط به، العالم الذي لايمت اليه بأي صلة من حسب او نسب.
وعندما يحل الليل وتتناجى القلوب المكلومة يهرع الى ربه يشكوه بثه وحزنه ويرخص دمعاً من علائمه الكبر، إنه يعلم أن الله قادر على كل شيء فكما انقذه من القتل ظلمة الجب وذل الإسترقاق فهو قادر كذلك على إعادته الى أبيه. ولكن المشاعر النبيلة الشفافة تتأبى إلا وفاءاً وحنيناً وشوقاً ودموعاً.
إقتحمت عليه وحدته وخلوته ضحكة عابثة، إنها المرأة نفسها!
ياإلهي! لماذا تصر هذه المرأة على إقتفاء أثره؟
لماذا تحاول إقتحام حياته وعالمه الخاص؟
ما الذي تريده؟
ماهو الشيء الذي تبغيه من وراء هذه الضحكات التي لامبرر لها؟
إنه يتسامى فوق هذا الإبتذال؟
إنه يشب في المرأة عندما تدني على نفسها جلباب الحياء والعفة وتتزين برداء الشرف والفضيلة.
وتبقى سيدة القصر امرأة العزيز تتودد وتتبذل! لكن يوسف يصدها، يبعدها عن عالمه. إنه لون من النزال المقدس بين العقل والارادة والملكات الانسانية السامية الرفيعة وبين الغريزة والشهوة والمطالب الحيوانية الرخيصة المبتذلة.
في الوقت الذي تفيض عينا يوسف الصديق بالنور والعزم والإباء تسيل عيناها رغبة هابطة كما يسيل فم الكلب الجائع لعاباً مقززاً.
وتحرك يوسف عليه السلام مبتعداً عن هذه البؤرة التي تفوح منها رائحة الاثم وسمع خطواتها تلاحقه فأسرع يوسع من خطوه بإتجاه الباب لكن عقلها المفتون، المشلول لايسعفها بعمل سليم فتمد يدها لتتشبث بقميصه وتمزقه إلا أنه يسبقها الى الباب. وفجأة "ألفيا سيدها لدى الباب".

شاركوا هذا الخبر مع أصدقائكم

جميع الحقوق محفوظة